صقر يكتب: زمن خميس أمبير
بقلم / محمود صقر
كان الأستاذ “خميس” وشهرته بين الطلبة “خميس أمبير” -نسبة إلي قانون أمبير- مدرس مادة العلوم ونحن في بداية المرحلة الإعدادية .
كان قصيراً نحيلاً أشبه ما يكون بالممثل الراحل “الضيف أحمد” ، وكان شخصية كاريكاتورية عجيبة التصرفات .
ومن أيامه المشهودة ذلك اليوم الذي ذهب بنا إلى المعمل لإجراء تجربة عملية ، ووقف بشموخ وثقة وهو يشرح لنا التجربة العملية التي سيضيف لها مركب كذا على مركب كذا وسينتج عنه بخارًا لونه أحمر .
وقفنا مشدوهين أمام الساحر العجيب الذي سيخرج من القنينة الشيطان الأحمر.
يصب المركبين في الوعاء .. ينطلق البخار والدخان .. نترقب بعيون مفتوحة المارد الأحمر .. ولكن تحدث المفاجأة … فالمارد لونه أزرق.
ينظر الأستاذ خميس إلى الدخان الأزرق باندهاش ، ويصمت بُرهة ، ثم يصوب نظره إلينا بنظرة يتطاير منها الشرر ويقول : مثل ما قلت لكم بالضبط .. اللون الأحمر .؟؟!!
تنعقد ألسنتنا ويسود الصمت ، فيخرق صوته حاجز الصمت ويرفع عصاه صائحاً : لماذا لا تنطقون .. هل خرست ألسنتكم .. ألا تشاهدون اللون الأحمر .؟؟!!
فيصيح معظم التلاميذ : أحمر .. أحمر .. يا أستاذ . !!
سرحت بخاطري في هذه الذكرى ثم سرحت بخيالي في تكملة للمشهد :
وبينما جمهرة من الصف تصيح : أحمر .. أحمر .
يقف تلميذ ويقول للأستاذ : قرأت في ديوان “أبو العلاء المعري“
تَلَوْا باطِلاً، وجلَوْا صارِماً، وقالوا: صدَقنا! فقلتم: نعَم!
رد عليه الأستاذ : وما علاقة هذا بموضوعنا يا خفيف يا ظريف.
قال له : يعني “المعري” يقصد :
جلوا صارما وقالوا أحمراً وقالوا صدقنا ؟ فقلنا: نعم .!!
فرد الأستاذ: تصدق إنك ولد عبيط ، ما تقول مع زملائك من الأول إنه أحمر لازم تلف وتدور وتقول لي المِعَري والمِغَطي .!!
قام تلميذ وقاله يا أستاذ: الولد ده قصده يُذَكِرك بمشهد “توفيق الدقن” وهو بيضرب “عبد المنعم إبراهيم” وهو بيقوله العلبة فيها فيل … فيها إيه ؟؟.. فيل .!!
قاله: تصدق إنك ولد غبي .. ما صلة العلم والتجارب العلمية الدقيقة والإنجازات العلمية التي أقدمها لكم ، بالفيل .. والمنديل .. والهبل بتاعك ده .!!!
قام تلميذ بكل جدية وقال : أنا قرأت كتاب (آثرت الحرية) ل “فيكتور كرافيتشينكو” الشيوعي الروسي الهارب من نظام “ستالين” حيث قال منتقداً ديكتاتورية هذه الحقبة : ( كنت بصفتي عضواً بارزاً في الحزب الشيوعي ألقي محاضرات ، وكنت أردد فيها الأكاذيب وكان السامعون يعلمون أنني كاذب وبرغم ذلك كانوا يصفقون لي ، فأنا وهم كنا نتقبل إهانة تمثيل أدوارنا المقررة في هذه المهزلة السياسية ).
ضحك الأستاذ خميس وقاله : تصدق إنك ولد ذكي .. ذكرت الشيوعية بمناسبة اللون الأحمر الذي رأيته .. صح ؟…هههههه …!!!
ووسط الأغلبية الصامتة ، قلة قليلة من الصف قالت : يا أستاذ التجربة فشلت ، والنتيجة زرقا .. والله زرقا ..
فقام جمهرة من الطلاب يصيحون : حمرا .. حمرا ..
ووسط صيحات : حمرا .. حمرا .. شعر الأستاذ خميس بالنشوة و لوَّحَ بعصاه ..
فرفع أحد الطلبة علماً أحمراً ، وأخرج غيره طبلة وزمارة ، ورفعوا الأستاذ خميس على الأعناق وهم يهتفون :
أستاذ خميس خط أحمر .. ولون بخاره لون أحمر .
أستاذ خميس ياكايدهم .. لونك الأحمر مشعللهم .
وانتشر الدخان الأزرق .. وأَظلم المكان .. وأُسدِل الستار على المهزلة .!!