آراءدوليصورة و خبر

المطيري :”جماعة كولن” الظاهرة الوظيفية والرعاية الأمريكية

بقلم د. حاكم المطيري ( الأمين العام لمؤتمر الأمة)

د. حاكم المطيري

الحلقة المفقودة:

تفاجأ المسلمون -فضلا عن غيرهم من المتابعين للشأن التركي- بجماعة فتح الله كولن وتورطها بالانقلاب الأمريكي الأخير! وحاول بعضهم فهم هذه الظاهرة الدعوية الحركية خارج سياقها التاريخي، ودون معرفة عميقة بظروفها التي نشأت فيها ونمت في ظلها، وقبل توقفهم عند ظاهرة نشاطها الدولي في ظل النفوذ الأمريكي طوال ثلاثين سنة، وتمددها في كل أنحاء العالم -في ١٥٠ دولة- من خلال مدارسها وجامعاتها ومراكزها التي بلغت الآلاف -منها ١٥٠٠ مدرسة وجامعة ومؤسسة إعلامية وتجارية وبنوك تقدر ثروتها بالمليارات- خلال ٣٥ سنة فقط؛ منذ السماح لها سنة ١٩٨٠م بعد انقلاب كنعان إيفرين الأتاتوركي؛ الذي اعترف السيد لطيف نائب كولن سابقا بأن (كولن كان على علم بانقلاب إيفرين ١٩٨٠ قبل حدوثه بثلاثة أيام، مشيرا إلى أن فترة انتشار المدارس التابعة للجماعة كانت بعد ذلك الانقلاب)[1]!

لقد كان هذا التمدد غير الطبيعي لجماعة كولن شيئا مذهلا يستحق الإشادة التي تبرع بها كثير من الدعاة والمشاهير السلفيين؛ فضلا عن غيرهم من الإسلاميين؛ قبل أن يعرفوا حقيقة دور هذه الجماعة!

كيف تسنى لجماعة -لا يُعرف من قياداتها ودعاتها إلا شيخها الثمانيني المهاجر لأمريكا منذ سنة ١٩٩٩م- أن تقوم بكل هذا العمل الدعوي والتعليمي الذي لا تستطيع دول تنفيذه فضلا عن جماعة! وهذا النشاط غير المسبوق بمؤسساته وملياراته -في فترة كان نفوذ أمريكا مهيمنا ومتحكما إلى حد كبير في المنطقة- حتى انتهى الأمر بالجماعة إلى المشاركة في أخطر انقلاب عسكري عرفته تركيا، بتخطيط وإشراف أمريكي ودعم مالي وإعلامي خليجي؟

وهي ليست جماعة بالمفهوم التقليدي بل منظمة لا يعرف أحد من يديرها باعتراف نائب فتح الله كولن –في لقائه مع أحمد منصور في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة– 

بداية الرواية:

 سنة ١٩٩٠م محطة تاريخية كبرى شهدت انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة كقطب أوحد في العالم، وانتهى بذلك فعليا مبدأ أيزنهاور الذي تم الإعلان عنه سنة ١٩٥٧م لمواجهة الشيوعية في الشرق الأوسط كخطر مهدد للمصالح الأمريكية، وللحضارة الغربية، وأصبح بموجبه الشرق الأوسط كله منطقة نفوذ أمريكي يحق لها التدخل العسكري لحماية دوله وأنظمته الحاكمة حين تقتضي المصالح الأمريكية ذلك.[2]

وقد تم منذ الإعلان عن مبدأ أيزنهاور توظيف العالم الإسلامي بدوله وجماعاته -الدعوية ثم السياسية فالجهادية- في إطار هذا المشروع الأمريكي الإستراتيجي؛ لمكافحة الإلحاد الشيوعي بداية من عهد أيزنهاور ثم كينيدي ثم جونسون ثم ريتشارد نيكسون ثم فورد ثم كارتر ثم ريغن ثم بوش الأب!

وبلغ هذا التوظيف أوجه بعد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان  سنة ١٩٧٩ – ١٩٨٩، بدعم الحركات الجهادية عبر باكستان والسعودية، هذا الدعم الذي أدى بالنهاية إلى هزيمة الشيوعية وانهيارها سنة ١٩٩٠م، وكما قال بندر بن سلطان في مذكراته “الأمير ص ١٤٠” عن التوظيف الأمريكي لدول العالم الإسلامي فضلا عن جماعاته لتحقيق أهدافها الإستراتيجية: (أصبح السعوديون الذين يجمعون في آن واحد بين الثروة والسرية ومعاداة الشيوعية مكونا حاسما من مكونات هجوم ريغن الإستراتيجي على الكتلة السوفيتية… وقد وضعت إدارة ريغن إستراتيجية للتعامل مع شواغل المملكة العربية السعودية في العالم وتوجيه الفائض النقدي السعودي نحو السياسة الخارجية الأمريكية… لم تقتصر الجهود السعودية في محاربة الشيوعيين على النفط والبترودولار لمصلحة السي آي إيه السرية… نحن استخدمنا الدين وجيشنا العالم الإسلامي وراءنا لمواجهة الشيوعية وهو ما تلاءم تماما مع إستراتيجية الرئيس ريغن لقتال الاتحاد السوفيتي في منطقة لا يستطيعون التأثير فيها كما نؤثر نحن) انتهى كلام الأمير بندر!

بدأت أمريكا وأوربا فعلا بمواجهة ما تسميه الخطر الإسلامي واحتوائه كما واجهت الخطر الشيوعي، وبالدول والجماعات الوظيفية ذاتها والآليات نفسها!

وقد بدأ هذا المشروع الأمريكي الإستراتيجي يشق طريقه منذ سنة ١٩٩٠م بدخول أمريكا بجيوشها بشكل مباشر كقوة استعمارية جديدة في الخليج والجزيرة العربية بذريعة تحرير الكويت، حيث انتهى بها الأمر باحتلال أفغانستان عسكريا سنة ٢٠٠١م ثم العراق سنة ٢٠٠٣م؛ كتتويج لنصر تاريخي للغرب على الشيوعية والاتحاد السوفيتي من جهة، ثم على العالم الإسلامي وجماعاته الجهادية والسياسية -الرافضة للنفوذ الغربي- بدعوى مكافحة الإرهاب من جهة أخرى!

 

لقد تم الإعلان عن معركة استعادة الإسلام المخطوف بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها؛ كما يقول وزير خارجيتها جون كيري: “لدينا مركز عالمي جديد للاتصالات، ونحن نعمل مع السعوديين، ومع الإماراتيين، ومع الماليزيين، مع الناس في جميع أنحاء العالم، ليست أصواتنا التي ستجري الفرق بل صوت الإسلام، عليهم استعادة دينهم ونحن سنساعدهم…”![3]

وقد حددت مؤسسة راند بكل وضوح الحلفاء الذين يجب على أمريكا تعزيز الشراكة معهم في العالم الإسلامي؛ لمواجهة التيار الإسلامي الجهادي والسياسي الذي يرفض النفوذ الغربي، ومن أهم الأطراف التي يؤكد تقرير راند ضرورة التحالف معها: الطرق الصوفية عامة وجماعة فتح الله كولن خاصة، هذا التحالف الذي تجلى في وقوف شيوخ الصوفية مع الثورة المضادة المدعومة أمريكيا في كل ساحات الثورة العربية، كما فعل علي جمعة في مصر، وحسون في سوريا، والجفري في اليمن، وجاء تشكيل “مجلس حكماء المسلمين” بدعم إماراتي وتشجيع أمريكي مؤكدا هذه الرعاية حيث فتح منبر الأمم المتحدة لرئيسه ابن بيه ليقول ما يريد الغرب قوله عن التطرف الإسلامي!

 

يؤكد كولن التوافق بين الإسلام والديمقراطية، ويقبل الجدل أن فكرة النظام الجمهوري هي إلى حد كبير تتفق مع المفاهيم الإسلامية في وقت مبكر من الشورى. كما يعارض أي نظام استبدادي من شأنه فرض قيود صارمة على الأفكار ووجه انتقادات شديدة إلى الأنظمة في إيران والسعودية. ويعتقد أن التجربة التركية والتفسير التركي للإسلام تختلف عن تلك التي لدى الآخرين، خصوصا العرب. ويكتب عن “إسلام الأناضول” الذي يقوم على التسامح ويستبعد القيود القاسية والتعصب)[5]!

رعاية أمريكا لفتح الله كولن:

وما أوصى به تقرير راند هو ما تجلى في أوضح صوره في رعاية أمريكا لجماعة فتح الله كولن، ابتداء من التحالف معه سنة ١٩٨٠م عبر انقلاب كنعان إيفرين الذي كانت وراءه الاستخبارات الأمريكية والذي فتح الباب على مصراعيه لنشاط جماعة كولن، ثم استقباله بولاية بنسلفانيا كمهاجر سنة ١٩٩٩م، وانتهاء باشتراكه في الانقلاب العسكري سنة ٢٠١٦م، مرورا بفتح الأبواب لمدارسه وجامعاته في كل العالم الإسلامي؛ في الوقت الذي لا تستطيع كثير من الجماعات الحصول على فتح مدرسة واحدة في بلدانها؛ فضلا عن الآلاف المدارس في كل البلدان التي تخضع للنفوذ الأمريكي! وحتى وصل تمدد الجماعة إلى السعودية التي تتبنى الدولة فيها الوهابية السلفية المناهضة للصوفية! وذلك تنفيذا لتوصيات تقرير راند؛ لتحجيم الثقافة الأصولية في السعودية، وإحلال ثقافة دينية بديلة أكثر انفتاحا على الغرب وحضارته وبمساعدة الحكومة السعودية نفسها!

حيث أكدت مؤسسة راند على ضرورة اتخاذ السعودية والإمارات والكويت وتركيا وماليزيا كدول حليفة لنشر الوسطية الإسلامية؛ عبر فتح الباب للصوفية والعلمانية الليبرالية والمذاهب التقليدية التي باستطاعتها مواجهة الأصولية الإسلامية!

وفي الوقت الذي قامت السعودية بإغلاق مئات المراكز الإسلامية الرسمية والأهلية بضغط أمريكي منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١م؛ كان الطريق يفتح في دول الخليج العربي -بما فيها السعودية- لجماعة كولن حيث بدأت ترجمة كتبه إلى العربية ونشرها على نطاق واسع، وتزكيته وجماعته وكتبه حتى من شيوخ السلفية في السعودية على نحو غير معهود! لتهيئة البيئة المناسبة لتغلغل الثقافة التي تريد أمريكا نشرها في العالم الإسلامي عبر صوفية كولن!

وبما أن إعادة تشكيل الثقافة الإسلامية بما يتواءم مع القيم الغربية يحتاج إلى المدارس والمعاهد والجامعات أكثر من أي شيء آخر؛ فستكون هي السبيل الذي يجب العبور من خلاله لإعادة تشكيل الوعي الإسلامي كما يريده الغرب!

لقد وجدت أمريكا ضالتها في حركة كولن؛ فهي كما جاء في كتاب “فتح الله كولن خميني الأتراك”: (بدأ فتح الله ولا سيما بعد عام 1990م -لاحظ التاريخ- بحركة رائدة في الحوار والتفاهم بين الأديان وبين الأفكار الأخرى متسمة بالمرونة والبعد عن التعصب والتشنج، ووجدت هذه الحركة صداها في تركيا ثم في خارجها، ووصلت هذه الحركة إلى ذروتها في الاجتماع الذي تم عقده في الفاتيكان بين الشيخ فتح الله وبين البابا إثر دعوة البابا لـه. لقد آمن بان العالم أصبح -بعد تقدم وسائل الاتصالات- قرية عالمية لذا فان أي ‏حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، وأنه يجب الانفتاح على العالم بأسره، وإبلاغ العالم كله بأن الإسلام ليس قائمًا على الإرهاب -كما يصوره أعداؤه- وان هناك مجالات واسعة للتعاون بين الإسلام وبين الأديان الأخرى)!

وهو تماما ما أوصت به مؤسسة راند؛ لتحقيق الهدف الذي تطمح أمريكا لتحقيقه!

إن الانفتاح على الغرب هو الباب الذي فتح الغرب من خلاله لفتح الله كولن كل الأبواب، كما جاء في كتاب “خميني الأتراك”: (تتميز حركة كولن عن باقي الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم هو أنها غالبا تلقى ترحيبا كبيرا من الغرب، إذ تعتبر هي “النموذج” الذي ينبغي أن يحتذى به بسبب “انفتاحها” على العالم، وخطابها الفكري. فمثلا إذا كان نجم الدين أربكان يرى أميركا عدوا للعالم الإسلامي بسبب تحكم “الصهيونية العالمية” في صنع القرار فيها، فإن كولن يرى أميركا والغرب عموما قوى عالمية لا بد من التعاون معها. وإذا كان أربكان يرى ضرورة الوحدة بين العالم الإسلامي، وهي الأفكار التي بلورها عمليا في تأسيسه مجموعة الثماني الإسلامية، فإن كولن لا ينظر إلى العالم العربي وإيران بوصفهما المجال الحيوي لتركيا؛ بل يعتبر القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان هم المجال الحيوي لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية هامة، وهو يرى أنه إذا كان لتركيا يوما ما أن تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال الدولة العثمانية، فلا بد من نفوذ قوي لها وسط الأتراك في كل مكان في العالم. لكن كولن من البراغماتية والذكاء بحيث لا يستخدم تعبير “القيادة التركية” في المنطقة، كما لا يدعو إلى استقلال الأقليات التركية في وسط آسيا، ولا تمارس جماعته أنشطة تعليمية في البلاد التي يمكن أن تتعرض فيها الأقلية التركية لمشاكل من قبل النظم الحاكمة مثل الصين وروسيا واليونان)!

النزعة القومية لدى كولن هي أيضا سبب الفجوة بينه وبين نجم الدين أربكان ثم رجب طيب أوردوغان!

فقد قدم فتح الله كولن إسلاما قوميا علمانيا ليبراليا يتماهى تماما مع الحضارة الغربية التي تحاول إخضاع العالم الإسلامي لمشروعها الحضاري والاستعماري، وكما جاء في كتاب “خميني الأتراك”: (واليوم يقترن اسم فتح الله كولن بمصطلح الإسلام التركي المتنور أو المعتدل؛ إذ حاول فتح الله كولن مع مؤيديه تأسيس حركة دينية سياسية اجتماعية حديثة تمزج الحداثة بالتدين، وبالقومية، وبالتسامح، وبالديمقراطية. ووضع الإسلام والقومية والليبرالية في بوتقة واحدة… كتبت الكثير من الدوريات الغربية عن كولن تصوره كزعيم حركة اجتماعية إسلامية قومية غير معاد للغرب، ووجه المستقبل للإسلام الاجتماعي في الشرق الأوسط)!

لهذا أوصى تقرير راند الولايات المتحدة العمل من أجل (إعلاء شأن التصوف والتواصل مع ممثليه: تشجيع البلدان ذات التقاليد الصوفية القوية على التركيز على ذلك الجزء من تاريخها، وإدراجه في المناهج الدراسية، وإيلاء مزيد من الاهتمام الى الإسلام الصوفي)[6]!

كما عد تقرير راند (الصوفية والمذاهب التقليدية حلفاء طبيعيون للغرب لدرجة أنه من الممكن إيجاد أساس مشترك فيما بينهم، ونحن نستكشف إمكانية إقامة شراكات مع التقليديين والصوفيين، من المهم أن نأخذ في الاعتبار التنوع الواسع بذلك)[7]!

الحلفاء الآخرون:

لم تقتصر توصيات راند على التحالف مع الصوفية فحسب؛ بل دعت الولايات المتحدة للتحالف مع الشيعة والتيارات العلمانية الليبرالية والمذاهب التقليدية؛ لمواجهة ما يسميه التقرير الأصولية الإسلامية التي تبين لاحقا أنها تبدأ من طالبان وتنتهي عند حزب العدالة والتنمية!

فجاء في تقرير بناء شبكات إسلامية معتدلة: (المشاركون المرتقبون: هناك ثلاثة قطاعات واسعة خلال نطاق النزعات الأيديولوجية على مستوى العالم الإسلامي حيث تستطيع الولايات المتحدة والعالم الغربي أن تجد مشاركين من بينهم في مجهوداتهم للتغلب على التطرف الإسلامي، وهذه القطاعات تتكون من: العلمانيين، والمسلمين الليبراليين، والمعتدلين التقليديين بما فيهم الصوفية)[8]!

وقد نوه التقرير بأهمية التحالف مع الشيعة للتصدي للحركات الإسلامية السنية؛ فجاء فيه: (قد تكون هنالك مصلحة للولايات المتحدة للانحياز بسياساتها إلى جانب الشيعة العراقيين الذين يطمعون في الحصول على حصة كبيرة من الحكم، والمزيد من حرية التعبير في السياسة والدين. فإذا أمكن تحقيق هذا التوافق فقد يشكل حاجزا في وجه الحركات الإسلامية المتطرفة، وسيشكل أُساسا لاستقرار الموقف السياسي الأمريكي في المنطقة، وبطبيعة الحال هذا التوافق لن يتحقق بسهولة. بعكس التزام الولايات المتحدة لاجتثاث البعث في العراق أو سياسة الولايات المتحدة التي ينظر إليها على أنها مؤيدة للسنة وسيضعف الثقة في التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية ومن جهة أخرى سيدفع معتدلي الشيعة في أحضان إيران)[9].

لقد قامت الولايات المتحدة بالفعل بتنفيذ ما جاء في توصيات تقارير راند منذ ١٩٩٩م – وهي السنة التي تم فيها استضافة كولن في بنسلفانيا -وتتابعها حتى صدور أخطرها سنة ٢٠٠٧، بتشكيل شبكة التحالفات بين شركائها؛ ففي الوقت الذي تأسست مراكز حكومية لنشر الوسطية والاعتدال وفق المنظور الأمريكي في الإمارات والكويت والسعودية والبحرين، تم كذلك رعاية الجماعات الصوفية والمذاهب التقليدية وشيوخها وإبرازهم إعلاميا كنموذج للإسلام الوسطي! وظهر التحالف الأمريكي الشيعي في أوضح صوره في العراق! وباتت القنوات الفضائية التي تروج الثقافة الغربية كالحرة والعربية وmbc تقوم بدورها في الحرب الإعلامية على التيارات الإسلامية الجهادية والسياسية، تماما كما جاء في توصيات مؤسسة راند! وبلغ التوظيف أوجه في تورط الجميع في الانقلاب الأمريكي في تركيا يوم الجمعة ١٥/ ٧/ ٢٠١٦؛ فقد استخدمت أمريكا دولها الوظيفية الخليجية لدعم الانقلاب ماليا، وقنواتها الفضائية في الترويج لنجاحه، وجماعة كولن الصوفية وبقايا العسكر الأتاتوركي لتنفيذه!

ونجح الشعب التركي بإيمانه واتحاده في إحباط المؤامرة الأمريكية والدفاع عن حريته!

وما زالت ظاهرة التوظيف تتكرر؛ ما دامت المهمة الأمريكية وأهدافها الإستراتيجية في العالم الإسلامي لم تتحقق؛ سواء عبر صناعة جماعات العنف والإرهاب الجهادية كتنظيم داعش أو جماعات التسامح الصوفية كتنظيم كولن!

 

الحلقة المفقودة:

تفاجأ المسلمون -فضلا عن غيرهم من المتابعين للشأن التركي- بجماعة فتح الله كولن وتورطها بالانقلاب الأمريكي الأخير! وحاول بعضهم فهم هذه الظاهرة الدعوية الحركية خارج سياقها التاريخي، ودون معرفة عميقة بظروفها التي نشأت فيها ونمت في ظلها، وقبل توقفهم عند ظاهرة نشاطها الدولي في ظل النفوذ الأمريكي طوال ثلاثين سنة، وتمددها في كل أنحاء العالم -في ١٥٠ دولة- من خلال مدارسها وجامعاتها ومراكزها التي بلغت الآلاف -منها ١٥٠٠ مدرسة وجامعة ومؤسسة إعلامية وتجارية وبنوك تقدر ثروتها بالمليارات- خلال ٣٥ سنة فقط؛ منذ السماح لها سنة ١٩٨٠م بعد انقلاب كنعان إيفرين الأتاتوركي؛ الذي اعترف السيد لطيف نائب كولن سابقا بأن (كولن كان على علم بانقلاب إيفرين ١٩٨٠ قبل حدوثه بثلاثة أيام، مشيرا إلى أن فترة انتشار المدارس التابعة للجماعة كانت بعد ذلك الانقلاب)[1]!

لقد كان هذا التمدد غير الطبيعي لجماعة كولن شيئا مذهلا يستحق الإشادة التي تبرع بها كثير من الدعاة والمشاهير السلفيين؛ فضلا عن غيرهم من الإسلاميين؛ قبل أن يعرفوا حقيقة دور هذه الجماعة!

كيف تسنى لجماعة -لا يُعرف من قياداتها ودعاتها إلا شيخها الثمانيني المهاجر لأمريكا منذ سنة ١٩٩٩م- أن تقوم بكل هذا العمل الدعوي والتعليمي الذي لا تستطيع دول تنفيذه فضلا عن جماعة! وهذا النشاط غير المسبوق بمؤسساته وملياراته -في فترة كان نفوذ أمريكا مهيمنا ومتحكما إلى حد كبير في المنطقة- حتى انتهى الأمر بالجماعة إلى المشاركة في أخطر انقلاب عسكري عرفته تركيا، بتخطيط وإشراف أمريكي ودعم مالي وإعلامي خليجي؟

وهي ليست جماعة بالمفهوم التقليدي بل منظمة لا يعرف أحد من يديرها باعتراف نائب فتح الله كولن –في لقائه مع أحمد منصور في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة– حيث يقول لطيف: “الجماعة ليس لها هيكلية تنظيمية واضحة إنما هيكلية مختلطة لا يعرف أحد غير كولن خيوطها؛ لكن كولن لا يملك العقل والقدرة على إدارة المنظمة، فهناك من يخطط ويعطي المشاريع له لتنفيذها… أعتقد أن أجهزة الاستخبارات في أميركا وإسرائيل لها دور في تحريك جماعة كولن، كما أرى أن الاستخبارات البريطانية لها دور في المشروع التعليمي لجماعة كولن”!

وإذا كان كلام لطيف -نائب فتح الله كولن سابقا- يعد دعوى أكثر منه شهادة؛ للخصومة بينهما! فإن معرفة الدور الأمريكي كقوة استعمارية كبرى في المنطقة -بلغ من نفوذها التحكم في حركة الأموال ومراقبة البنوك ومحاصرة من تريد وفتح الباب لمن تريد في الدول التي تعد حليفة لها وتحت نفوذها فضلا عمن يعيش في أمريكا نفسها منذ عشرين سنة تقريبا- يساعد كثيرا على معرفة قصة جماعة كولن؛ بل والجماعات الإسلامية الأخرى التي قد تعمل لسنوات لتتفاجأ في النهاية -على فرض حسن النية- بأنه تم توظيفها في مشروع أكبر منها في ظل دول وظيفية، فالتوظيف هو قدرة القوى الدولية الاستعمارية على استخدام الدول التي تخضع لنفوذها والجماعات فيها لتحقيق أهدافها بقطع النظر عن نيات أعضائها!

بداية الرواية:

تعد سنة ١٩٩٠م محطة تاريخية كبرى شهدت انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة كقطب أوحد في العالم، وانتهى بذلك فعليا مبدأ أيزنهاور الذي تم الإعلان عنه سنة ١٩٥٧م لمواجهة الشيوعية في الشرق الأوسط كخطر مهدد للمصالح الأمريكية، وللحضارة الغربية، وأصبح بموجبه الشرق الأوسط كله منطقة نفوذ أمريكي يحق لها التدخل العسكري لحماية دوله وأنظمته الحاكمة حين تقتضي المصالح الأمريكية ذلك.[2]

وقد تم منذ الإعلان عن مبدأ أيزنهاور توظيف العالم الإسلامي بدوله وجماعاته -الدعوية ثم السياسية فالجهادية- في إطار هذا المشروع الأمريكي الإستراتيجي؛ لمكافحة الإلحاد الشيوعي بداية من عهد أيزنهاور ثم كينيدي ثم جونسون ثم ريتشارد نيكسون ثم فورد ثم كارتر ثم ريغن ثم بوش الأب!

وبلغ هذا التوظيف أوجه بعد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان  سنة ١٩٧٩ – ١٩٨٩، بدعم الحركات الجهادية عبر باكستان والسعودية، هذا الدعم الذي أدى بالنهاية إلى هزيمة الشيوعية وانهيارها سنة ١٩٩٠م، وكما قال بندر بن سلطان في مذكراته “الأمير ص ١٤٠” عن التوظيف الأمريكي لدول العالم الإسلامي فضلا عن جماعاته لتحقيق أهدافها الإستراتيجية: (أصبح السعوديون الذين يجمعون في آن واحد بين الثروة والسرية ومعاداة الشيوعية مكونا حاسما من مكونات هجوم ريغن الإستراتيجي على الكتلة السوفيتية… وقد وضعت إدارة ريغن إستراتيجية للتعامل مع شواغل المملكة العربية السعودية في العالم وتوجيه الفائض النقدي السعودي نحو السياسة الخارجية الأمريكية… لم تقتصر الجهود السعودية في محاربة الشيوعيين على النفط والبترودولار لمصلحة السي آي إيه السرية… نحن استخدمنا الدين وجيشنا العالم الإسلامي وراءنا لمواجهة الشيوعية وهو ما تلاءم تماما مع إستراتيجية الرئيس ريغن لقتال الاتحاد السوفيتي في منطقة لا يستطيعون التأثير فيها كما نؤثر نحن) انتهى كلام الأمير بندر!

ولم ينته التوظيف الأمريكي للإسلام -كقوة هائلة للتغيير- بانهيار الاتحاد السوفيتي؛ فقد بدأ مشروع بوش الأب “مكافحة التطرف الإسلامي” منذ سنة ١٩٩١م، ثم مشروع كلينتون “تجفيف منابع الأصولية”، ثم مشروع بوش الابن “الحرب على الإرهاب”!

وكان كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون “الفرصة السانحة” الذي أصدره بعد التدخل الأمريكي في الخليج سنة ١٩٩٠م وحذر فيه من خطورة الأصولية الإسلامية بعد زوال الخطر الشيوعي كعدو للحضارة الغربية! وكتاب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز “الشرق الأوسط الجديد” -الذي دعا للتعاون مع الدول العربية والخليجية لمواجهة الأصولية- من أهم الكتب التي حددت معالم عصر ما بعد سقوط الشيوعية، وهي مصدر إلهام لمراكز الدراسات الغربية، وكان كتاب “صدام الحضارات” الأصرح والأجرأ في تحديد طبيعة العدو الجديد، وأن الخطر ليس الأصولية والحركات الإسلامية الجهادية والسياسية فحسب، بل الإسلام نفسه الذي يرفض الحضارة الغربية بماديتها وعلمانيتها، وهو الدين الوحيد الذي لديه تصور شامل للحياة؛ مما يجعل من الصدام معه أمرا حتميا!

وقد بدأت أمريكا وأوربا فعلا بمواجهة ما تسميه الخطر الإسلامي واحتوائه كما واجهت الخطر الشيوعي، وبالدول والجماعات الوظيفية ذاتها والآليات نفسها!

وقد بدأ هذا المشروع الأمريكي الإستراتيجي يشق طريقه منذ سنة ١٩٩٠م بدخول أمريكا بجيوشها بشكل مباشر كقوة استعمارية جديدة في الخليج والجزيرة العربية بذريعة تحرير الكويت، حيث انتهى بها الأمر باحتلال أفغانستان عسكريا سنة ٢٠٠١م ثم العراق سنة ٢٠٠٣م؛ كتتويج لنصر تاريخي للغرب على الشيوعية والاتحاد السوفيتي من جهة، ثم على العالم الإسلامي وجماعاته الجهادية والسياسية -الرافضة للنفوذ الغربي- بدعوى مكافحة الإرهاب من جهة أخرى!

غير أن تنامي المقاومة الشعبية الأفغانية ثم العراقية، وتنامي حركات الجهاد في أفغانستان والعراق قد أدى لهزيمة الاحتلال الأمريكي هزيمة كبرى بلغت أوجها سنة ٢٠٠٦م؛ مما دعا الجيش الأمريكي للاستعانة بدراسات مؤسسة راند التي توالت تقاريرها وتوصياتها قبل سنة ٢٠٠٠م وبعدها؛ بضرورة تشكيل ثقافة إسلامية جديدة تسهم في إنجاح مشروع الاحتلال الأمريكي للمنطقة بالأدوات نفسها التي واجه الغرب فيها الشيوعية!

فجاء في تقرير سنة 2007م “بناء شبكات إسلامية معتدلة” Building Moderate Muslim Networks الذي أفرد التقرير فصله الثاني للتركيز على فكرة الحرب البادرة The Cold War Experience والاستفادة من الخبرة الأمريكية في حرب التيار الشيوعي من الداخل في تقديم نموذج مشابه لصانع القرار الأمريكي كي يستفيد منها في المواجهة المشابهة مع التيار الإسلامي، وركّز هنا على جانبين:

(الأول): خاص بخبرة الاستعانة بالطابور الخامس من المهاجرين البولنديين والشيوعيين للغرب ومعهم المفكرين الأمريكيين لتمهيد أرض المعركة ونشر القيم الغربية.

و(الثاني): خاص بالجانب الإعلامي مثل تجربة (راديو ليبرتي) الموجه لروسيا، فضلاً عن إنشاء قسم خاص في المخابرات الأمريكية دوره هو التغيير الفكري لمواقف وآراء طلاب ومفكري الدول الشيوعية وتقديم العالم لهم من وجهة نظر غربية محببة ويطرح التقرير أفكارًا بشأن كيفية استخدام الدين ضد الشيوعية، كنوع من الإسقاط لبيان أنه يمكن -العكس- باستخدام العلمانية ضد الدين في الدول الإسلامية!

ويسرد التقرير قائمة بمن يعتبرهم من المعتدلين في العديد من الدول العربية ودول الخليج، ويطرح أفكارًا لمواجهة اتهام أنصاره بالعمالة، ويؤكد أهمية برامج التلفزيون التي تركز على فكرة (التعايش) مع الغرب”.

“ويركز التقرير هنا على أن الطريق الصحيح هو بناء أرضية من المسلمين أنفسهم من أعداء التيار الإسلامي، مثلما حدث في أوروبا الشرقية وروسيا حينما تم بناء منظمات معادية للشيوعية من أبناء الدول الشيوعية نفسها.

وقد ركز الفصل الثالث من دراسة (راند) على بحث أوجه التشابه أو الخلاف بين أسلحة الحرب البادرة في هدم الشيوعية، وأسلحة الحرب الحالية ضد الفكر الإسلامي، ويؤكد أن هناك أوجه تشابه أبرزها أن الصراع مع الشيوعية كان فكريًّا مثلما هو الحال مع العالم الإسلامي؛ فهو يعترف بأن عقبات هذه السياسة أعمق مع المسلمين.

ويذكر من أوجه الخلاف -عما حدث في الحرب البادرة- بأن أهداف الشيوعية كانت واضحة للغرب وكان من السهل محاربتها، بعكس أهداف التيار الإسلامي غير الواضحة للغرب، كما أن الشيوعية كانت هناك آليات للتفاوض معها (عبر أجهزة الأمم المتحدة وغيرها) ، بعكس التيار الإسلامي غير المحدد في كتلة واحدة محددة كالشيوعية، أما الأهم فهو المخاوف -كما يعترف التقرير- من أن ينظر لمحاولات ” تحرير” العالم الاسلامي أو اعتداله على الطريقة الغربية على أنه غزو واحتلال فكري ، فضلًا عن صعوبة ضرب وتحجيم الدول التي تقف خلف الفكر الوهابي (السعودية)؛ لأنها في نفس الوقت دول ترتبط أمريكا بمصالح معها (البترول – مناطق النفوذ) ” انتهى مختصر تقرير راند!

لقد تم الإعلان عن معركة استعادة الإسلام المخطوف بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها؛ كما يقول وزير خارجيتها جون كيري: “لدينا مركز عالمي جديد للاتصالات، ونحن نعمل مع السعوديين، ومع الإماراتيين، ومع الماليزيين، مع الناس في جميع أنحاء العالم، ليست أصواتنا التي ستجري الفرق بل صوت الإسلام، عليهم استعادة دينهم ونحن سنساعدهم…”![3]

وقد حددت مؤسسة راند بكل وضوح الحلفاء الذين يجب على أمريكا تعزيز الشراكة معهم في العالم الإسلامي؛ لمواجهة التيار الإسلامي الجهادي والسياسي الذي يرفض النفوذ الغربي، ومن أهم الأطراف التي يؤكد تقرير راند ضرورة التحالف معها: الطرق الصوفية عامة وجماعة فتح الله كولن خاصة، هذا التحالف الذي تجلى في وقوف شيوخ الصوفية مع الثورة المضادة المدعومة أمريكيا في كل ساحات الثورة العربية، كما فعل علي جمعة في مصر، وحسون في سوريا، والجفري في اليمن، وجاء تشكيل “مجلس حكماء المسلمين” بدعم إماراتي وتشجيع أمريكي مؤكدا هذه الرعاية حيث فتح منبر الأمم المتحدة لرئيسه ابن بيه ليقول ما يريد الغرب قوله عن التطرف الإسلامي!

 

التحالف مع الصوفية:

لقد تم تصنيف الصوفية في توصيات مؤسسة راند ضمن فئة قوى الحداثة حيث جاء في تقرير سنة 2005 “الإسلام المدني الديمقراطي”: “يمثل الصوفيون التأويل الفكري المنفتح للإسلام، وينبغي أن يُشجع بقوة على إدراجه في المناهج المدرسية والمعايير المعتمدة والحياة الثقافية في الدول التي تمارس تقاليد صوفية مثل أفغانستان أو العراق، ويمدّ التيار الصوفي من خلال أشعاره وموسيقاه وفلسفته جسورا قوية تربط بين مختلف الانتماءات الدينية”[4]!

وورد في تقرير راند ٢٠٠٧ “بناء شبكات إسلامية معتدلة” ذكر فتح الله كولن كنموذج يحتذى به؛ حيث يقول التقرير: (يروج القائد الديني التركي فتح الله كولن الإسلام الصوفي الحديث المعتدل. ويعارض تطبيق الدولة للشريعة الإسلامية، مشيرا إلى أن معظم الأحكام الإسلامية تتعلق بحياة الأفراد الخاصة، ويهتم القليل منها فقط بأمور الحكم. فالدولة كما يعتقد، لا ينبغي أن تطبق الشريعة الإسلامية: لأن الدين مسألة خاصة، ولا ينبغي أن تفرض الدولة أي أحكام من أي ديانة معينة على السكان.

كولن يستمد أفكاره حول التسامح والحوار مع المسيحيين واليهود؛ فقد اجتمع مرتين مع البطريرك بارثولوميوس، رئيس طائفة الروم الأرثوذكس البطريركية في إسطنبول، كما زار البابا في روما في عام 1998، وتلقى زيارة رئيس حاخامات من إسرائيل.

 

ويؤكد كولن التوافق بين الإسلام والديمقراطية، ويقبل الجدل أن فكرة النظام الجمهوري هي إلى حد كبير تتفق مع المفاهيم الإسلامية في وقت مبكر من الشورى. كما يعارض أي نظام استبدادي من شأنه فرض قيود صارمة على الأفكار ووجه انتقادات شديدة إلى الأنظمة في إيران والسعودية. ويعتقد أن التجربة التركية والتفسير التركي للإسلام تختلف عن تلك التي لدى الآخرين، خصوصا العرب. ويكتب عن “إسلام الأناضول” الذي يقوم على التسامح ويستبعد القيود القاسية والتعصب)[5]!

رعاية أمريكا لفتح الله كولن:

وما أوصى به تقرير راند هو ما تجلى في أوضح صوره في رعاية أمريكا لجماعة فتح الله كولن، ابتداء من التحالف معه سنة ١٩٨٠م عبر انقلاب كنعان إيفرين الذي كانت وراءه الاستخبارات الأمريكية والذي فتح الباب على مصراعيه لنشاط جماعة كولن، ثم استقباله بولاية بنسلفانيا كمهاجر سنة ١٩٩٩م، وانتهاء باشتراكه في الانقلاب العسكري سنة ٢٠١٦م، مرورا بفتح الأبواب لمدارسه وجامعاته في كل العالم الإسلامي؛ في الوقت الذي لا تستطيع كثير من الجماعات الحصول على فتح مدرسة واحدة في بلدانها؛ فضلا عن الآلاف المدارس في كل البلدان التي تخضع للنفوذ الأمريكي! وحتى وصل تمدد الجماعة إلى السعودية التي تتبنى الدولة فيها الوهابية السلفية المناهضة للصوفية! وذلك تنفيذا لتوصيات تقرير راند؛ لتحجيم الثقافة الأصولية في السعودية، وإحلال ثقافة دينية بديلة أكثر انفتاحا على الغرب وحضارته وبمساعدة الحكومة السعودية نفسها!

حيث أكدت مؤسسة راند على ضرورة اتخاذ السعودية والإمارات والكويت وتركيا وماليزيا كدول حليفة لنشر الوسطية الإسلامية؛ عبر فتح الباب للصوفية والعلمانية الليبرالية والمذاهب التقليدية التي باستطاعتها مواجهة الأصولية الإسلامية!

وفي الوقت الذي قامت السعودية بإغلاق مئات المراكز الإسلامية الرسمية والأهلية بضغط أمريكي منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١م؛ كان الطريق يفتح في دول الخليج العربي -بما فيها السعودية- لجماعة كولن حيث بدأت ترجمة كتبه إلى العربية ونشرها على نطاق واسع، وتزكيته وجماعته وكتبه حتى من شيوخ السلفية في السعودية على نحو غير معهود! لتهيئة البيئة المناسبة لتغلغل الثقافة التي تريد أمريكا نشرها في العالم الإسلامي عبر صوفية كولن!

وبما أن إعادة تشكيل الثقافة الإسلامية بما يتواءم مع القيم الغربية يحتاج إلى المدارس والمعاهد والجامعات أكثر من أي شيء آخر؛ فستكون هي السبيل الذي يجب العبور من خلاله لإعادة تشكيل الوعي الإسلامي كما يريده الغرب!

لقد وجدت أمريكا ضالتها في حركة كولن؛ فهي كما جاء في كتاب “فتح الله كولن خميني الأتراك”: (بدأ فتح الله ولا سيما بعد عام 1990م -لاحظ التاريخ- بحركة رائدة في الحوار والتفاهم بين الأديان وبين الأفكار الأخرى متسمة بالمرونة والبعد عن التعصب والتشنج، ووجدت هذه الحركة صداها في تركيا ثم في خارجها، ووصلت هذه الحركة إلى ذروتها في الاجتماع الذي تم عقده في الفاتيكان بين الشيخ فتح الله وبين البابا إثر دعوة البابا لـه. لقد آمن بان العالم أصبح -بعد تقدم وسائل الاتصالات- قرية عالمية لذا فان أي ‏حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، وأنه يجب الانفتاح على العالم بأسره، وإبلاغ العالم كله بأن الإسلام ليس قائمًا على الإرهاب -كما يصوره أعداؤه- وان هناك مجالات واسعة للتعاون بين الإسلام وبين الأديان الأخرى)!

وهو تماما ما أوصت به مؤسسة راند؛ لتحقيق الهدف الذي تطمح أمريكا لتحقيقه!

إن الانفتاح على الغرب هو الباب الذي فتح الغرب من خلاله لفتح الله كولن كل الأبواب، كما جاء في كتاب “خميني الأتراك”: (تتميز حركة كولن عن باقي الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم هو أنها غالبا تلقى ترحيبا كبيرا من الغرب، إذ تعتبر هي “النموذج” الذي ينبغي أن يحتذى به بسبب “انفتاحها” على العالم، وخطابها الفكري. فمثلا إذا كان نجم الدين أربكان يرى أميركا عدوا للعالم الإسلامي بسبب تحكم “الصهيونية العالمية” في صنع القرار فيها، فإن كولن يرى أميركا والغرب عموما قوى عالمية لا بد من التعاون معها. وإذا كان أربكان يرى ضرورة الوحدة بين العالم الإسلامي، وهي الأفكار التي بلورها عمليا في تأسيسه مجموعة الثماني الإسلامية، فإن كولن لا ينظر إلى العالم العربي وإيران بوصفهما المجال الحيوي لتركيا؛ بل يعتبر القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان هم المجال الحيوي لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية هامة، وهو يرى أنه إذا كان لتركيا يوما ما أن تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال الدولة العثمانية، فلا بد من نفوذ قوي لها وسط الأتراك في كل مكان في العالم. لكن كولن من البراغماتية والذكاء بحيث لا يستخدم تعبير “القيادة التركية” في المنطقة، كما لا يدعو إلى استقلال الأقليات التركية في وسط آسيا، ولا تمارس جماعته أنشطة تعليمية في البلاد التي يمكن أن تتعرض فيها الأقلية التركية لمشاكل من قبل النظم الحاكمة مثل الصين وروسيا واليونان)!

وهذه النزعة للقومية التركية لدى جماعة فتح الله كولن هي التي جعل منها حركة أقرب للأتاتوركية والمؤسسة العسكرية في تركيا، وهو سر تحالفها مع انقلاباتهم كما جرى لها مع انقلاب كنعان إيفرين سنة ١٩٨٠م بدعم أمريكي، وانتهاء بالانقلاب الأخطر على الإطلاق يوم الجمعة ١٥ /٧ / ٢٠١٦!

وهذه النزعة القومية لدى كولن هي أيضا سبب الفجوة بينه وبين نجم الدين أربكان ثم رجب طيب أوردوغان!

فقد قدم فتح الله كولن إسلاما قوميا علمانيا ليبراليا يتماهى تماما مع الحضارة الغربية التي تحاول إخضاع العالم الإسلامي لمشروعها الحضاري والاستعماري، وكما جاء في كتاب “خميني الأتراك”: (واليوم يقترن اسم فتح الله كولن بمصطلح الإسلام التركي المتنور أو المعتدل؛ إذ حاول فتح الله كولن مع مؤيديه تأسيس حركة دينية سياسية اجتماعية حديثة تمزج الحداثة بالتدين، وبالقومية، وبالتسامح، وبالديمقراطية. ووضع الإسلام والقومية والليبرالية في بوتقة واحدة… كتبت الكثير من الدوريات الغربية عن كولن تصوره كزعيم حركة اجتماعية إسلامية قومية غير معاد للغرب، ووجه المستقبل للإسلام الاجتماعي في الشرق الأوسط)!

ويقول عنه أيضا: (وأول ما يلفت النظر في كولن هو أنه لا يفضل تطبيق الشريعة في تركيا، حيث يقول الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الأقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشؤونها، وأنه لا داعي لتطبيق أحكام الشريعة في الشأن العام. ووفقا لهذا يعتقد كولن أن الديمقراطية هي أفضل حل)!

ولهذا أوصى تقرير راند الولايات المتحدة العمل من أجل (إعلاء شأن التصوف والتواصل مع ممثليه: تشجيع البلدان ذات التقاليد الصوفية القوية على التركيز على ذلك الجزء من تاريخها، وإدراجه في المناهج الدراسية، وإيلاء مزيد من الاهتمام الى الإسلام الصوفي)[6]!

كما عد تقرير راند (الصوفية والمذاهب التقليدية حلفاء طبيعيون للغرب لدرجة أنه من الممكن إيجاد أساس مشترك فيما بينهم، ونحن نستكشف إمكانية إقامة شراكات مع التقليديين والصوفيين، من المهم أن نأخذ في الاعتبار التنوع الواسع بذلك)[7]!

هذه الشراكة -التي أوصت بها مؤسسة راند التابعة للجيش الأمريكي كجهة استشارية- بدأت بالتوافق الفكري وفتح الأبواب لنشاط جماعة كولن على أوسع نطاق في العالم الإسلامي؛ لتنتهي في توظيفها في انقلاب عسكري على نظام اختاره الشعب التركي بإرادته، وحقق نجاحا سياسيا واقتصاديا هو الأبرز في تاريخ الجمهورية التركية؛ بل في المنطقة كلها، لا لشيء إلا لأنه بدأ يخرج عن النفوذ الأمريكي!

الحلفاء الآخرون:

لم تقتصر توصيات راند على التحالف مع الصوفية فحسب؛ بل دعت الولايات المتحدة للتحالف مع الشيعة والتيارات العلمانية الليبرالية والمذاهب التقليدية؛ لمواجهة ما يسميه التقرير الأصولية الإسلامية التي تبين لاحقا أنها تبدأ من طالبان وتنتهي عند حزب العدالة والتنمية!

فجاء في تقرير بناء شبكات إسلامية معتدلة: (المشاركون المرتقبون: هناك ثلاثة قطاعات واسعة خلال نطاق النزعات الأيديولوجية على مستوى العالم الإسلامي حيث تستطيع الولايات المتحدة والعالم الغربي أن تجد مشاركين من بينهم في مجهوداتهم للتغلب على التطرف الإسلامي، وهذه القطاعات تتكون من: العلمانيين، والمسلمين الليبراليين، والمعتدلين التقليديين بما فيهم الصوفية)[8]!

وقد نوه التقرير بأهمية التحالف مع الشيعة للتصدي للحركات الإسلامية السنية؛ فجاء فيه: (قد تكون هنالك مصلحة للولايات المتحدة للانحياز بسياساتها إلى جانب الشيعة العراقيين الذين يطمعون في الحصول على حصة كبيرة من الحكم، والمزيد من حرية التعبير في السياسة والدين. فإذا أمكن تحقيق هذا التوافق فقد يشكل حاجزا في وجه الحركات الإسلامية المتطرفة، وسيشكل أُساسا لاستقرار الموقف السياسي الأمريكي في المنطقة، وبطبيعة الحال هذا التوافق لن يتحقق بسهولة. بعكس التزام الولايات المتحدة لاجتثاث البعث في العراق أو سياسة الولايات المتحدة التي ينظر إليها على أنها مؤيدة للسنة وسيضعف الثقة في التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية ومن جهة أخرى سيدفع معتدلي الشيعة في أحضان إيران)[9].

لقد قامت الولايات المتحدة بالفعل بتنفيذ ما جاء في توصيات تقارير راند منذ ١٩٩٩م – وهي السنة التي تم فيها استضافة كولن في بنسلفانيا -وتتابعها حتى صدور أخطرها سنة ٢٠٠٧، بتشكيل شبكة التحالفات بين شركائها؛ ففي الوقت الذي تأسست مراكز حكومية لنشر الوسطية والاعتدال وفق المنظور الأمريكي في الإمارات والكويت والسعودية والبحرين، تم كذلك رعاية الجماعات الصوفية والمذاهب التقليدية وشيوخها وإبرازهم إعلاميا كنموذج للإسلام الوسطي! وظهر التحالف الأمريكي الشيعي في أوضح صوره في العراق! وباتت القنوات الفضائية التي تروج الثقافة الغربية كالحرة والعربية وmbc تقوم بدورها في الحرب الإعلامية على التيارات الإسلامية الجهادية والسياسية، تماما كما جاء في توصيات مؤسسة راند! وبلغ التوظيف أوجه في تورط الجميع في الانقلاب الأمريكي في تركيا يوم الجمعة ١٥/ ٧/ ٢٠١٦؛ فقد استخدمت أمريكا دولها الوظيفية الخليجية لدعم الانقلاب ماليا، وقنواتها الفضائية في الترويج لنجاحه، وجماعة كولن الصوفية وبقايا العسكر الأتاتوركي لتنفيذه!

ونجح الشعب التركي بإيمانه واتحاده في إحباط المؤامرة الأمريكية والدفاع عن حريته!

وما زالت ظاهرة التوظيف تتكرر؛ ما دامت المهمة الأمريكية وأهدافها الإستراتيجية في العالم الإسلامي لم تتحقق؛ سواء عبر صناعة جماعات العنف والإرهاب الجهادية كتنظيم داعش أو جماعات التسامح الصوفية كتنظيم كولن!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى