آراءصورة و خبر

إلهامي يكتب: هذه ليست معركة تركيا بل معركة الأمة الإسلامية كلها

بقلم/ محمد إلهامي

 أمريكا تفرض النظام الرأسمالي على الجميع، وذلك لأنها تتحكم فيه، ولأنه يؤول إليها ويقويها.. وصنعت لأجل هذا منظمات عالمية تتحكم في رسم السياسات الاقتصادية للدول الأخرى، لكي تبقيها دائما ضمن سجن التحكم الكامل والامتصاص الكامل.. (ولا بأس أن نحيل هنا لكتاب: الاغتيال الاقتصادي للأمم للخبير الاقتصادي جون بركينز.. فهو يشرح طرفا من هذا عن تجربته الشخصية).. وهذا فضلا عن عدد من الاتفاقيات الدولية التي تجعل الدولة التي لا توقع عليها في حال عزلة اقتصادية على الحقيقة.

ومن هاهنا فإن كل سعي لتولي الحكم في دولة نامية يجب أن يقدم أهله للأمريكان ضمانات قاطعة بأنهم يعتنقون الرأسمالية الأمريكية وسيطبقونها.. هكذا فعل الجميع، بمن فيهم الإسلاميون.. وبمن فيهم أردوغان طبعا.

أردوغان اتخذ طريق المناورة في ظرف عالمي يسمح بمثل هذا (وقد فصَّلت الكتابة فيه سابقا) ولم يزل منذ 16 عاما في صراع مع أهم مراكز النفوذ: العسكرية والأمنية.. إلى هذه اللحظة يبدو ناجحا، فيما تُوِّج بفشل الانقلاب الماضي في يوليو 2016..

وهذه النجاحات التي حققها في الاقتصاد هي نجاحات ضمن منظومة الاقتصاد العالمي نفسه.. وسيظل اقتصادا ناجحا بالأرقام ما دامت المنظومة نفسها مستمرة، والتي من أهم ملامحها: توفير بيئة استثمارية قوية تجذب الأموال وتقيم الصناعات وتزيد التجارة الخارجية (وطبعا فرص العمل الداخلية) وترفع الدخل وتستثمر الموارد الذاتية وتبحث عن الفرص … إلخ!

لكن الزعيم الوطني ذي الهوى الإسلامي (والذي هو أصلا اقتصادي، وخريج كلية الاقتصاد) يعرف في النهاية أن المستفيد الأكبر من هذا النجاح هو المنظومة العالمية وحيتانها الكبار.. وأن مضادة هذا النظام لا بد أن يبدأ من تخفيض الفائدة الربوية حتى إنهائها ليعتدل توزيع المال والثروة.

هذه هي النقطة الحساسة التي أثارت الحيتان الكبار من الطبقة الاقتصادية التركية المتغربة، ومن الطبقة الاقتصادية المرتبطة بالغرب.. وعندها لا بد أن تبدأ الحرب ولو تعرضوا هم أنفسهم للخسائر

تماما كما كان رجال الأعمال في مصر على استعداد للخسارة الكبرى الاقتصادية مقابل إسقاط مرسي.. لأن مرسي -ولو كان نظيفا وفي منظومة اقتصادية رأسمالية لا يفكر في تهديدها، فإنه بمجرد غلق منافذ فساد فإنه يضربهم في مقتل- يهدد المنظومة نفسها.. وهكذا، لا بأس عند كثيرين من رجال الأعمال أن يخسروا كثيرا مقابل بقاء المنظومة التي لو استمرت فستعيد لهم أموالهم أضعافا مضاعفة.. ولو من دماء المسحوقين.. فأكل أموال الناس أهون عندهم من إنشاء منظومة عادلة بطبيعة الحال.

أردوغان يدرك هذا كما يدركه أصغر طالب اقتصاد.. والصراع صراع عقول وخطوات ومحاولة تغيير هذه المنظومة بأقل قدر من الخسائر.. تركيا قوية اقتصاديا لكن هذه القوة مرهونة في جانب منها للأجانب، خصوصا في أمرين:

الأول: العملة النقدية التي تخضع لسوق الأوراق المالية في العرض والطلب

الثاني: المستثمرون ذي الهوى الغربي من الأتراك، أو الغربيون أنفسهم

في الأمر الأول تجري المضاربة على العملة في هذه الأسواق لتفقد قيمتها.. أرجوك لا تنسى أن العملة في نفسها في ظل المنظومة الاقتصادية هي بذاتها بضاعة يُتاجر فيها.. فحين يركد سوقها ويقل عليها الطلب فإنها تنخفض قيمتها.. هذه العملية لا تمس الإنتاج لا بالزيادة ولا بالسلب ولكنها تضعف قيمة العملة. (في بعض الأحيان يمكن للدولة نفسها الاستفادة من نقصان قيمة عملتها لترويج بضائعها التي ستكون أرخص أو سياحتها التي ستكون أرخص… إلخ)

وفي الأمر الثاني تهرب رؤوس الأموال وتحول ثرواتها إلى العملة الأجنبية فيزداد الطلب على العملة الأجنبية كما يقل الطلب على العملة المحلية.

وأرجوك تذكر أن هذه العملة الأجنبية التي يزداد الطلب عليها هي الدولار الذي هو بلا قيمة، مجرد ورقة مطبوعة كما يعرف العالم كله.. إلا أن قوته مستمدة من قوة السلاح والسياسة التي تجعله مخزنا للقيمة والثروة وبه تشتري الموارد والمجهود.

أي أن انهيار الليرة لا يساوي بحال ضعف الإنتاج التركي .. كما أن صعود الدولار لا يعني بحال زيادة الإنتاج الأمريكي.. إنما هي معركة قوة والاقتصاد جزء منها.

الحلول التي يطرحها الاقتصاديون المعاصرون هي في عمومها حلول من نفس بيئة المنظومة الاقتصادية الربوية.. فهي في أحسن أحوالها حلول تسكينية وهي في أغلب أحوالها حلول لإعادة البلاد إلى المنظومة الاقتصادية نفسها.. التي هي احتلال حقيقي.

هناك ما أسميه “المثلث الحضاري” وهو: المال، العلم، السلاح.. وأن الأمم تبقى قوية ما كان كل ضلع منها يخدم الآخريْن، فإن اختل واحد منها بدأت الأمة في الانحلال والوقوع تحت الاحتلال.

المقصود هنا أن الحلول الاقتصادية للأزمة التركية الحالية لا تكون بحال اقتصادية.. بل الواقع أنه بقدر ما يستطيع السلاح التركي الحفاظ على استقلال البلد بقدر ما تستطيع أن تنجو من هذه الأزمة ومما وراءها.. وبقدر ما سيستطيع العِلْم التركي اختراع أسلحة دفاعية وهجومية وإحسان استثمار الموارد وتنميتها بقدر ما تستطيع تركيا أن تنجو من هذه الأزمة.

محاولة المساس بالنظام الاقتصادي العالمي لا بد أن يسبب حربا في نهاية المطاف.. لكن الطرف الأضعف سيحاول تأجيلها (تركيا) كما سيحاول الطرف الأقوى الاستباق بها (أمريكا) لإخماد هذه المحاولة.

في الحروب لا بد من استثارة الهوية والروح الدينية والقومية، وهو ما يفعله أردوغان الآن.. لأن الحقيقة أن نقطة ضعف هذا النظام الاقتصادي العالمي هو أنه في حاجة دائمة لأسواق ومستهلكين.. والاستقلال يبدأ من أمور بسيطة كالمقاطعة والزهد والاكتفاء بالضروري دون الكمالي والترفيهي والإقبال على المنتج المحلي.

في هذا الوضع لابد من أن يتأثر كثيرون سلبا، أولئك الكثيرون هم الذين ارتبطوا بشكل ما بالمنتجات الغربية، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا جزءا من معركة الاستقلال لو لم يضحوا بمصالحهم الآنية لصالح استقلالهم وروحهم الدينية والقومية والحضارية..

بقدر ما سيُجَيَّش الناس للحرب، وبقدر ما سيستعدون للتضحية، وبقدر ما سيبذلون من المجهود العلمي والنفسي للصمود في الحرب الحقيقة القادمة بقدر ما ينتصرون..

الأهم، بقدر ما ستحقق دولة ما اكتفاءها الذاتي بقدر ما تنخلع من منظومة الاقتصاد العالمية.. وهذا أمر لا يتحقق بغير مجهود هائل من الدعاية والإقناع واستثارة هذه المشاعر الحضارية ومعاني العزة والكرامة.

من نافلة القول أيضا أن هذه ليست معركة تركيا، بل هي معركة الأمة الإسلامية كلها.. وأنها أيضا من المعارك التي تقسم الناس إلى فسطاطين: مع الأمة أو ضدها.. والمشهد واضح منذ ثورات الربيع العربي، الطرف الذي مع الأمة واضح، والطرف الذي ضدها واضح.

محمد إلهامي / باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى