صقر :فيلم جمهوره غائب عن المشهد

في منزلنا العريق رقم 33 شارع باب الكراستة بحي اللبان والذي تجاوز عمره الآن مئة عام والذي تعود ملكيته للأميرة شهرزاد راتب (من العائلة المالكة) كانت جلسات السمر في سن الطفولة على بسطة السلم المصنوع من رخام المرمرالأبيض الجميل، وكان صديق الطفولة ورفيق العمر ( مجدي ) مغرماً بحكاية الأفلام .
وكان خياله يتسع لإضافة مشاهد لم تكن موجودة بالفيلم، وكان أشد ما يزعجه أن يكون أحدنا شاهد الفيلم من قبل ويعارضه بإنكار المشاهد التي يضيفها من خياله.
وكانت أسعد انطلاقاته وإبداعاته حين يسألنا ” حد فيكم دخل فيلم كذا ” فإذا قلنا جميعاً : ” لا ” ينشرح صدره وتنفرج أساريره ويقول : ” إذاً؛ آخد راحتي “
وأحياناً يتحرر من كل القيود ويقول لنا : ” أنا ححكيلكم فيلم [ نَتٓشْ ] ” !!
” يعني إيه فيلم ” نَتٓشْ” يعني فيلم من ألفه ليائه من خياله هو .
أمتع تلك الأفلام بالنسبة لنا كان فيلم ” النتش ” نسرح فيه معه بخيالنا ، ونحب من الفيلم أشخاصاً، ونكره ونعادي غيرهم ، وننحاز للبطل ضد أعدائه …..
استرجعت مع الأصدقاء تلك الذكريات بضحكات تخترق بذبذباتها الفضاء.
وإذا بصديق يحول صوت الضحكات إلى نبرة جادة قائلاً : ” ألسنا نحن الشعوب العربية مازلنا في مرحلة الطفولة تلك ؟!!”
ألسنا كلنا مندمجين وملتفين حول الشاشات لمشاهدة أضخم إنتاج عالمي لفيلم الموسم ” داعش ” .
فيلم يتم روايته من طرف واحد يملك القصة والسيناريو والكاميرا والراوي (يعني واخد راحته والفيلم نٓتٓشْ).
وإذا كان فيلم ” داعش ” فيلم عالمي ، فهناك أيضاً لجمهور المشاهدين العرب أفلاماً محلية على ذات الصورة مثل فيلم “الحوثيون ” ، ” أنصار بيت المقدس ” ………..
هل من الممكن أن تتقبل الشعوب الغربية ، أن تدور أحداث على أراضيها تتعلق بحاضرها ومستقبلها، ويكتفون بدور المشاهد ويتركون حكوماتهم تروي لهم أحداث الأفلام من طرف واحد بلا حسيب ولا رقيب ؟!.
في أوروبا والدول المتقدمة هناك قوانين لحرية تداول المعلومات ، وهناك شيء اسمه ” الشفافية “
قاطعته قائلا: ولماذا يا عزيزي نقول أوروبا والدول المتقدمة ، “مصر” في العشرينات والثلاثينيات ، كان فيها برلماناً يعرض عليه أدق تفاصيل الدولة بما فيها المخصصات المالية للأسرة المالكة للاعتماد ، وفي عهد الملك (فؤاد الأول) وفي رئاسة (عبد الخالق باشا ثروت) لمجلس الوزراء تم عرض طلب الملك فتح اعتماد مالي لرحلة خاصة للملك إلي أوروبا علي البرلمان، ورفض الأعضاء بالإجماع .
كانت الحكومة المصرية في ذلك الوقت تصدر كتاباً دورياً تحت اسم ” تقويم” ،( احتفظ بنسخ نادرة منه في مكتبتي الخاصة ) يشمل تقويم عام للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويشتمل على أرقام دقيقة لإيرادات ومصروفات كل وزارة ويطبع في المطابع الأميرية ليكون في متناول كل الناس .
وعلى ذكر الملك (فؤاد الأول)، مازلنا نذكر قصة الشيخ محمد مؤذن المسجد التي رواها لنا أباؤنا ونحن أطفال: ففي الستينيات تعرض الشيخ للإهانة من شرطي ، فذهب إلى قسم الشرطة يتظلم لمأمور القسم ، فنال نصيباً أوفر من الإهانة.
فأرسل خطاباً بالبريد لرئيس الجمهورية ، يرفع له مظلمته، متبعاً نصيحة (الجاحظ) في البيان والتبيين: بحسن الاختصار، ووضوح الدلالة، وصواب الإشارة، ودقة المدخل، فكتب له:” ظُلمتُ ، فَتَظَلمتُ ، فظُلمتُ ، فإن كان هذا يرضيك ، فعهد فؤاد الأول أفضل .” والسلام.
وكانت هذه الرسالة هي أخر العهد بالشيخ محمد رحمه الله .
هكذا يدور بنا الزمان يتقدم بالعالم للأمام، ويدور بنا نحن للخلف .
“فإن كان هذا يرضيك ، فعهد فؤاد الأول أفضل ” !!!