الاقتصاد يجبر تركيا وروسيا على التقارب
![](https://hmak.org/main/wp-content/uploads/2015/12/56.jpg)
تقرير حماك – وكالات
![56](http://hmak.org/main/wp-content/uploads/2015/12/56.jpg)
العلاقات المعقدة بين روسيا وتركيا تعود إلى خمسة قرون مضت، كقوتين تتنافسان على النفوذ في منطقة البحر الأسود والقوقاز، وعلى الرغم من أنهما اشتبكا خلال الحرب العالمية الأولى، فقد تحسنت العلاقات بينهما مع انهيار الاتحاد السوفياتي عندما لم يعد بينهما حدود مشتركة؛ لكن هذا لم يمنع وجود توتر في العلاقات بين الحين والآخر؛ حيث إن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي الذي يمثل لروسيا تهديدا وجوديا منذ فترة طويلة ، ويتنافس البلدان على النفوذ في كل من أوكرانيا وقبرص، وكذلك الآن سوريا.
رغم تكرر الزيارات المتبادلة والدافئة بين القيادتين السياسيتين في تركيا وروسيا لأكثر من 10 مرات في الأعوام القليلة الماضية؛ فإن ذلك لم يمنع وجود قضايا تتضارب بشأنها رؤى وسياسات البلدين، وتأتي في مقدمتها الأزمتان السورية والأوكرانية والانقلاب في مصر، إضافة إلى ملفات ثانوية أخرى.
وفيما يلي استعراض لأبرز نقاط الخلاف بين الدولتين في هذه القضايا ونبذة عن الروابط الاقتصادية بينهما التي حالت – حسب المراقبين – من دون تدهور علاقاتهما:
1- الأزمة السورية
حين تفجرت الأزمة السورية في مارس 2011، حافظت روسيا ولا تزال على موقفها الرافض بشدة لإسقاط نظام بشار الأسد قائلة إنه صاحب السيادة والشرعية، ووقفت سندا دوليا له فمنعت تبني أي قرار ضده في مجلس الأمن الدولي، وعارضت أي تدخل عسكري لإزاحته بالقوة، كما حذرت تركيا باستمرار من دعمها للمعارضة السورية المسلحة.
و على النقيض من موسكو، أيدت أنقرة المعارضة السورية وطالبت الأسد بالتنحي بعد المجازر التي نفذها ضد شعبه، وذلك إثر فشل الجهود التي بذلتها – في بداية الأزمة- لإقناع الأسد بتنفيذ إصلاحات جوهرية تستجيب للمطالب الشعبية والاحتجاجات الغاضبة.
وبعد اشتداد المعارك بين القوات النظامية السورية وكتائب المعارضة واقترابها من الحدود التركية، تطور الموقف التركي بدعوة الناتو لنشر صواريخ باتريوت كإجراء دفاعي احتياطي، وهي الخطوة التي رفضتها موسكو ورأت أنه لا مبرر لها. لكن أنقرة ردت بأن “نشر الباتريوت لا يعني روسيا لأن الهدف منها هو الدفاع عن أمن تركيا، ومن الخطأ أن تتدخل روسيا في شأن تركي داخلي”.
ثم جاء التوتر الأكبر بين البلدين بشأن الأزمة السورية حين تدخلت روسيا عسكريا إلى جانب النظام السوري، وبدأت – في 30 سبتمبر 2015- شن غارات جوية على مواقع المعارضة السورية المسلحة المدعومة من أنقرة .
وتعليقا على هذا التطور قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن هذه الضربات “غير مقبولة” وإن موسكو ترتكب “خطأ جسيما” بهذا التدخل، كما أكد رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو أن التدخل الروسي “يصعّد الأزمة” في سوريا.
وضمن الملف ذاته، ترفض تركيا الدعم الذي تقدمه موسكو لأكراد سوريا الذين يحلمون بإقامة دولة غرب كردستان، وتقول أنقرة إنها لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ذلك، باعتبار أن دولة كردية على حدودها الجنوبية من المحرمات السياسية لأن عدواها القومية قد تصل من جديد إلى ديار بكر معقل الأكراد في تركيا. كما تندد أنقرة بالقصف الروسي على منطقة جبل التركمان غربي سوريا.
وفي 24 نوفمبر 2015 أسقطت طائرتان تابعتان لسلاح الجو التركي مقاتلة روسية من طراز سوخوي 24 مما أدى لمقتل أحد طياريْها، وقالت أنقرة إنها حذرت الطائرة عشر مرات خلال خمس دقائق بعد انتهاكها الأجواء التركية، بينما أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنها أسقطت داخل الأراضي السورية.
وتعليقا على الحادثة تبادل الطرفان تصريحات تراوحت بين التهديد والتهدئة، فقد حذر بوتين أنقرة من أن الحادثة ستكون لها “تداعيات خطيرة”، وأعلنت هيئة الأركان الروسية أن كل الاتصالات العسكرية مع تركيا قد قُطعت، كما ألغى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زيارة كانت مقررة إلى تركيا.
وفي المقابل؛ قال رئيس الوزراء التركي أوغلو إن حكومته لا تريد “توتير العلاقات مع روسيا لأنها صديقتنا وجارتنا”. غير أنه مع ذلك بعث برسالة تحذير صارمة لموسكو قائلا إن “تركيا لن تتردد في الدفاع عن نفسها، ومن حقنا وواجبنا الدفاع عن حدودنا الجوية المنتهكة”، مؤكدا أن بلاده ستـُـبقي قنوات التواصل مفتوحة مع روسيا.
ورغم الخلاف القوي بين البلدين في الملف السوري فإن الطرفين حرصا على عدم إغلاق قنوات الحوار بينهما واستمرت اللقاءات على عدة مستويات، وأكدت روسيا أن السبيل إلى تحقيق السلام في سوريا هو الالتزام ببنود بيان جنيف الصادر بشأن أزمتها في 30 يونيو 2012، بينما قدمت تركيا مقترحات تقوم على تسليم الأسد للسلطة وتشكيل حكومة وطنية ذات صلاحيات واسعة.
2- الانقلاب العسكري بمصر
اتخذت أنقرة موقفا سياسيا شديد اللهجة تجاه الانقلاب في مصر منذ إطاحة الجيش بالرئيس المدني المنتخب محمد مرسي يوم 3 يوليو 2013، وقالت إن ما حصل انقلاب عسكري مرفوض ولا يمكن السكوت عنه، وإن إبقاء مصر على المسار الديمقراطي مصلحة حيوية للمنطقة وللعالم، وحثت المجتمع الدولي على نبذ الانقلابيين لتكريس عزلتهم الإقليمية والدولية ونزع الشرعية عنهم.
وعلى الطرف النقيض ترى روسيا الأمر من زوايا أخرى، فلا مانع لديها من توثيق علاقاتها مع النظام الجديد بمصر الذي يشتكي من تهميش أميركي بل وتستعد موسكو لملء الفراغ بما يتوافق مع مصالحها؛ ولذلك استقبل الرئيس الروسي نظيره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كما زار بوتين القاهرة في فبراير 2015. ووقع الطرفان اتفاقيات في المجالات العسكرية والاقتصادية.
ويعتقد المراقبون أن روسيا تستخدم علاقاتها مع النظام في مصر لإثبات عدم نجاح الربيع العربي، لأن نجاح الثورة في مصر يعني تشجيعا لنجاحها في سوريا وليبيا وهو ما لا تريده روسيا، وتعمل على إقناع تركيا بهذه الأفكار من أجل أن تقوم الأخيرة بتغيير سياساتها الحالية تجاه هذين البلدين.
3- الأزمة الأوكرانية
يتمثل الموقف التركي الأوّلي من الأزمة الأوكرانية – بعد قيام قوات عسكرية روسية بدخول شبه جزيرة القرم في مارس 2014- في الدعوة لحل الأزمة الأوكرانية من خلال اتحاد سياسي داخلي وتطبيق حزمة إصلاحات اقتصادية شاملة.
وتلخص موقف أنقرة من الأزمة في إعلانها الوقوف الكامل مع وحدة الأراضي الأوكرانية ورفض أي تدخل روسي؛ وهو ما شكَّل موقفا استباقيا حاسما ضد التدخل الروسي في أوكرانيا التي ترى فيها تركيا منطقة عازلة طبيعية مع روسيا. إضافة إلى العمل بكل قوة لمساندة الوجود التاريخي لتتار القرم، ومحاولة منع تحويل منطقتهم إلى ساحة تصارع القوى العالمية.
لكن تركيا رفضت مشاركة الاتحاد الأوروبي في فرضه عقوبات اقتصادية على روسيا؛ قائلة إنها ليست عضوا في الاتحاد حتى تلزم بمواقفه، كما أن العقوبات تحرمها من استغلال فرص اقتصادية كبيرة مع روسيا.
4- أزمات أخرى
من بين القضايا الخلافية الأخرى بين البلدين تبرز الأزمة القبرصية التي تدعم فيها روسيا حكومة قبرص اليونانية ضد قبرص التركية لأسباب استثمارية، ولذلك رحبت موسكو بضم قبرص اليونانية للاتحاد الأوروبي.
ولكن العلاقة الروسية بقبرص اليونانية لا يبدو أنها تثير قلقا تركيا كبيرا، بل على العكس أصبح وضع قبرص المتدهور اقتصاديا يعتبر أحد أسباب حماس روسيا المتزايد للاستثمار في تركيا.
هذا إضافة إلى تباين المواقف بشأن المشاكل السياسية في مناطق البلقان والقوقاز، مثل أزمات كوسوفا وجورجيا والدعم الروسي لأرمينيا في صراعها مع أذربيجان التي تدعمها تركيا، وخلافات أخرى متعلقة بإمدادات الطاقة من وسط آسيا، لكن هذه المشكلات لا تبدو عائقا كبيرا أمام الحوار الثنائي ومحاولة تكوين علاقة إستراتيجية بين الدولتين.
الروابط الاقتصادية
المراقبون للعلاقات التركية الروسية يؤكدون أن الروابط الاقتصادية هي المحدد الأكبر للعلاقات بين البلدين، والركن الذي يمنع من تأزمها أو تدهورها بشكل دراماتيكي، خاصة في ظل وجود هيئة للتعاون المشترك تسمى “المجلس الأعلى للتعاون التركي الروسي”.
وربما يكون الحديث عن إمكانية قطع العلاقات الاقتصادية الروسية التركية سهلا من حيث القول لا الفعل، فعلى مدار قرون، ناصب البلدان الجارتان بعضهما العداء؛ لكن عندما تدخل العلاقات التجارية على الخط بينهما فإنهما ينحيان عدم الثقة بينهما جانبا. لذا تبدو التهديدات الروسية بعد حادث إسقاط تركيا للطائرة الروسية، مثل التهديدات السابقة للرئيس التركي أردوغان بقطع العلاقات التجارية مع روسيا، إثر تصعيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحملة العسكرية في سوريا “جوفاء” برأي مراقبين.
الطاقة
تستمد تركيا ما يقرب من 75% من استهلاك الطاقة من مصادر خارجية، ويأتي 20% من استهلاك الطاقة من روسيا وحدها ، ومن المقرر أن تقوم شركة آتوم ستروي إكسبورت الروسية بالبدء في بناء أول محطة نووية في تركيا العام المقبل، ضمن مشروع أك كويو النووي الذي تقدر قيمته بأكثر من 22 مليار دولار ويتضمن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات، وهو المشروع الذي يمكن أن توقفه تركيا.
وتكمن أهمية هذا المسار في أن روسيا تعتبر أهم مورِّد للغاز الطبيعي لتركيا، إذ تستورد الأخيرة سنويا 16 مليار متر مكعب من الغاز الروسي عبر الخط البحري (قرابة نصف وارداتها من الغاز الطبيعي)، إضافة إلى 12% من وارداتها النفطية، وهي ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا.
في المقابل، تعد تركيا سابع شريك تجاري لروسيا وثاني أكبر سوق تصديرية لها بعد ألمانيا، وهي الوجهة الأولى للسياح الروس الذين يصل منهم إلى تركيا خمسة ملايين سائح سنويا.
وقد وقع البلدان أكثر من ستين اتفاقية في مجالات التعاون المختلفة خاصة في مجالات الطاقة الكهربائية وبناء سفن الشحن والنقل البحري، وبينهما تبادل تجاري يزيد على 33 مليار دولار سنويا، ويتوقع أن يرتفع إلى مئة مليار بحلول عام 2023.
كما أن البلدين أيضا شركاء في خط أنابيب رئيسي جديد للغاز الطبيعي والمعروف باسم السيل التركي(ساوث ستريم)، والذي يعتبر ذا أهمية استراتيجية بالنسبة للبلدين، وتبلغ قيمته 16 مليار دولار وتبلغ القدرة التمريرية له نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وهو من أهم المشاريع التي قد يتم العمل على إيقافها، وإذا حدث فإن ذلك سيضر بشكل أساسي بالاقتصاد الروسي، حيث إنه سيسمح في نهاية المطاف لروسيا بإرسال الغاز الطبيعي إلى قلب أوربا عبر الحدود التركية اليونانية وليس من خلال أوكرانيا.
التجارة
وتعود العلاقات التجارية بين روسيا وتركيا إلى القرن السادس عشر حيث تدفقت التجارة بشكل منتظم بين اسطنبول التي كانت تعرف باسم القسطنطينية، وموسكو، ومثلت زيارة الرئيس الروسي بوتين لتركيا عام 2004- وهي الأولى لرئيس روسي منذ أكثر من ثلاثة عقود- نقطة تحول في العلاقات التركية الروسية، وبعد مرور عام استضاف بوتين أردوغان (عندما كان ريسا للوزراء) في المنتجع الصيفي على ساحل البحر الأسود.
وفي 23 سبتمبر/أيلول الماضي كان أردوغان في موسكو لافتتاح مسجد جديد، وتوقع أن تنمو التجارة البينية بين البلدين لتصل إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2020، وبعد أسبوع، بدأت الضربات الجوية الروسية في سوريا لدعم نظام الأسد وانتهك المجال الجوي التركي مرارا، وعلى إثر هذا العدوان وجه أردوغان تحذيرا شديد اللهجة لروسيا قائلا: “إذا لزم الأمر، يمكن لتركيا الحصول على الغاز من أماكن مختلفة كثيرة وعلى روسيا أن تفكر في الأمر جيدا”.
كما أعلن رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف أمس الأربعاء، أن إسقاط تركيا للطائرة الروسية قد يؤدي إلى إلغاء بعض المشروعات المشتركة المهمة بين البلدين، منوها إلى أن الشركات التركية قد تخسر حصتها في السوق الروسية.
وبالنظر إلى الميزان التجاري بين البلدين فإن الخسارة الروسية ستكون هي الأكبر في حال قطع العلاقات التجارية، في ظل الوضع السيئ الذي يعاني منه الاقتصاد الروسي ، إذ تميل الكفة في حجم التبادل التجاري، الذي يبلغ حوالي 32 مليار دولار إلى صالح روسيا، التي تصدر ما يقارب الـ 21 مليار دولار منه إلى تركيا، خصوصاً من الغاز.
وتعد تركيا أكبر خامس شريك تجاري لروسيا بحصة تبلغ 4.6% من إجمالي التجارة الخارجية الروسية، وذلك بحسب بيانات إدارة الجمارك الروسية للفترة ما بين يناير/كانون الثاني وسبتمبر/أيلول من العام الحالي، وتقدر قيمة العقود التجارية الموقعة بين البلدين حتى نهاية العام الماضي 2014، بحوالي 44 مليار دولار.
السياحة
وفي ملف السياحة، بلغ عدد السياح الروس الذين قصدوا تركيا في عام 2014 نحو 4.38 ملايين شخص، وذلك من أصل 42 مليون سائح، أدخلوا ما يقارب 36 مليار دولار إلى الاقتصاد التركي.
ويأتي السياح الروس بالنسبة لتركيا في المرتبة الثانية بعد ألمانيا التي صدرت نحو 5.4 ملايين سائح العام الماضي، ورغم أن تركيا كانت الوجهة الأولى للسياح الروس في العام 2014 عندما استقبلت قرابة 3.3 ملايين سائح روسي، إلا أن حظر الرحلات في الفترة الحالية لن يكون له تأثير كبير على قطاع السياحة في تركيا، لأنها لا تعتبر وجهة للسياحة الشتوية على عكس مصر، وقدّر عدد السياح الروس الموجودين في تركيا حاليا بنحو عشرة آلاف فقط، وذلك مقابل 80 ألفا كانوا موجودين في مصر وقت إعلان حظر الرحلات إلى المطارات المصرية.
لكن خسائر تركيا ستبلغ مليارات الدولارات في حال استمرار توقف حركة السياحة الروسية حتى بداية ذروة الموسم في نهاية الربيع المقبل.
كان اتحاد أصحاب الفنادق التركية قد قدر الانخفاض في عدد السياح الروس ب 1.5 مليون سائح هذا العام نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية في روسيا، مما سيؤدى إلى خسائر محتملة تبلغ 4.5 مليار دولار.
وبعد أزمة إسقاط الطائرة أعلن نائب رئيس رابطة منظمي الرحلات السياحية في روسيا ديميتري جورين أن جميع منظمي الرحلات السياحية في روسيا قد ألغوا رحلاتهم إلى تركيا.
لكن وكالة أنباء نوفوستي الروسية الرسمية، ذكرت الأربعاء، أن الشركات السياحية الروسية لا ترغب في إيقاف رحلاتها إلى تركيا. وكانت العديد من الشركات الروسية أعلنت أن تركيا هو المكان المفضل للسائح الروسي، منذ 13 عامًا، وهي أهم بديل لهم بعد توقف الطيران إلى مصر.
وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أعلن أيضا الأربعاء أن روسيا لا تعتزم شن حرب على تركيا، وأن موقف بلاده من الشعب التركي لم يتغير، وتساءل فقط بشأن تصرف القيادة الحالية في تركيا.
المصدر : الجزيرة – وكالات