منوعات

البنى المجتمعية الجديدة وفكرة تقبل الآخر

صافي محمد مظهر أحمد- كاتبة سورية||

استجابت المجتمعات جميعها للصيرورة المجتمعية الحديثة التي يعيشها العالم منذ نهاية العصور الوسطى وابتداء مرحلة الحداثة والتنوير والتي أخذت تتسع يوما بعد يوم، والتغير المستمر في البنية المجتمعية وفي ضوء هذه التغيرات وأيضا بسبب الهجرات واتساع مساحة التبادل الفكري والثقافي الذي فُرض على العالم أجمع؛ كان لا بد من الانفتاح على الآخر وتقبله بما يحمل من فكر وثقافة ومعتقد طالما أنه لا يفرضها على الآخر عنوة ولا يتقوقع على ذاته واصدًا أبواب الاندماج والعمل الجماعي والمجتمعي.

ومن هنا طرحت مشروعية تقبل التعددية الدينية التي رضخ الغرب لها سواء طوعا أو كرها لتقبل الآخر القادم من كل مكان في هذا العالم بفعل السياسات العالمية التي كان من نتائجها الحتمية انتقال الناس أفرادا وجماعات بحثا عن الحياة الملائمة مقوماتها للعيش البشري الآمن، وطالما أنه هو من فتح أبوابه لهذا الآخر ليعبرها ويشاطرهم الحياة على أراضيه كان لا بد من نشوء.

تابعنا في X

فكرة تقبل الآخر

التي لطالما كانت النغمة التي يعزف عليها الغرب ليظهر لابسا لبوس الديمقراطية والحريات والتسامح والسلام وبالرغم من كل الشعارات الرنانة، إلا أنني بصفتي مقيمة في ألمانيا وكل مقيم في بلاد الغرب لا يخفى عليه الرفض المبطن من الغربيين للإسلام والمسلمين وللحجاب كرمز ديني وفي هذا يتفق الغرب عامة؛ إلا أن فرنسا تجاوزت الخفاء لتعلن عداءها للإسلام جهرةً مظهرةً كل ما تحمله في ذاكرتها من حقد وغل على الإسلام وحامليه.. ولو عدنا للبحث في خلفية هذا الحقد الذي قد يحير المراقب في زماننا هذا لوجدنا أن جذور هذا الحقد ضاربة أطنابها في عمق التاريخ.

فلو رجعنا بالتاريخ ومحّصنا قليلا سنرى أن الحضور الإسلامي كان بارزا في تلك البلاد بقوة وبالتحديد في عام 714 في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، وأن المسلمين لمّا خالطوا الفرنسيين أشاعوا الأمان والأمن لهذه القبائل البربرية المتناحرة والتي تعلي شريعة الغاب على قيم الإنسانية برعاية من رهبنة فاسدة، حيث يقول المؤرخ الفرنسي فرانسوا كليمان أول دخول للمسلمين في منطقة ما وراء البيرنييه Pyrénées حصل ما بين سنة 714-715 م ، وفي سنة 720 م تمت السيطرة الإسلامية على منطقة ناربون Narbonne بقيادة السمح بن مالك  الخولاني، الذي توغل حتى وصل إلى تولوز، ثم استُشهد في معركة بها .

أصبحت فرنسا بعد ذلك ولاية إسلامية وأشاع فيها المسلمون الأمن والأمان وعملوا على توطين القبائل المتناحرة والهمجية وعلموهم الزراعة، والتاريخ يذكر أنهم أول من أدخل القمح الأسمر إلى فرنسا وكثير من الزراعات التي كانت مجهولة، ولا عجب أيضا إن علمنا أنه إلى عهد قريب كانت فرنسا تتعلم من كتب ابن رشد.

بالإضافة لما لاقته فرنسا إبان الحقبة الاستعمارية التي كسرت عنق فرنسا في الجزائر؛ من خلال خسارتها لتلك المستعمرة والتي قاد فيها النضال ضد جيوش فرنسا مجاهدون مسلمون كانوا مستميتين في الدفاع عن أرضهم وعرضهم ولم تثنيهم أو تفت من عزمهم كل أساليب القتل والتعذيب الوحشية التي مارسها المحتل الفرنسي، لذلك خرجت فرنسا من الجزائر وهي تحمل حقداً لا يمكن وصفه ضد هذا الدين الذي يتمتع أتباعه بقوة وعزيمة تهز الجبال..

“الناتو” يضع تركيا أمام خيارات صعبة

المشهد السياسي الفرنسي والصراع على السلطة يؤجج العداء لإشغال الناخبين عن فشل السياسات المتعاقبة خلال العشرين سنة الماضية وإلهائهم عن مشاهدة التدهور الاقتصادي نتيجة فشل تلك السياسات، لذلك يجب على الجالية الإسلامية مواجهة هذه التحديات بفكر ايجابي بعيد عن التطرف والغلو والتصرف بشكل يجعل الطرف الاخر يرى مدى كذب قياداتهم وأحزابهم المتطرفة والمعادية للمسلمين دون وجه حق.

ومع ذلك فإن إقبال المسلمين على المنظمات والملتقيات الإسلامية بازدياد إلا أن هذه الملتقيات تواجه تحديات كبرى ومنها:

١_ ما جاء على لسان د. عمر الأصفر رئيس ملتقى مسلمي فرنسا الذي أُنشئ في الثمانينيات من القرن الماضي حين قال بدعم بعض المنتديات أو الملتقيات الإسلامية في فرنسا من قبل جهات مغرضة ليس لها رعايا ولا مواطنين في هذه البلاد بغية خلق صراعات بين الملتقيات بدلا من التنافسية البناءة التي تصب في المصلحة العامة للمسلمين واستخدامها كأداة هدم بدلا من جعلها أداة بناء وارتقاء.

٢_ ومن التحديات المؤسفة أيضا هو إقدام  بعض الدول على وضع إتحاد مسلمي فرنسا وملتقى فرنسا منذ عدة سنوات على قائمة الإرهاب وكذلك أكثر من ثمانين مؤسسة إسلامية على قائمة الإرهاب وبالتحديد من المذهب السني وكأن هناك غاية هي إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام السني وحَسب، دون اطلاع تلك الدول على نشاطات هذه الملتقيات وعدم تصريحها عن أي خلفية إرهابية تدفعها لتحميل هذه الملتقيات التهم التي بنوا عليها مواقفهم.

٣_ وكذلك يضاف تحدٍ آخر لما يواجهه مسلمو فرنسا وهو تدخل الإعلام بشكل سلبي في التعاطي مع القضايا الإسلامية في الغرب وتضخيم الأخطاء الفردية لبعض المحسوبين على الإسلام مما يؤجج الحقد الغربي على المسلمين.

٤_ وأهم التحديات التي تطفو على السطح اليوم هو ما تواجهه النساء المسلمات في فرنسا بشكل مباشر معلن وغيرها بشكل غير معلن من محاربة الحجاب وهذا الجدل حوله الذي لا ينتهي رغم أنه يجب أن يعتبر من الحريات الشخصية التي يضمنها القانون لرعايا البلاد.

وقد برزت في المرحلة الأخيرة التصريحات الرسمية من السياسيين المرشحين للانتخابات ضد المسلمين وثقافتهم وشعائرهم وهو خطاب يحمل في طياته دلالات إقصائية للمكون المسلم في المجتمع.. ويتم التركيز على الحجاب برأيي كمقيمة في إحدى دول أوربا ربما لأنه تعبير ظاهر على شكل المرأة وعائلتها عما تحمله من عقيدة ثابته تدفعها للتمسك بحجابها وعفتها وهذا يقلقهم إذ يستشفون منه ثبات هؤلاء المسلمين على قيم دينهم مما يشكل بنظرهم تهديدا للعلمانية التي يتبنونها والتي يسعون لزرعها في عقول المكَوَّن المسلم لتهميش القيم الإسلامية التي يمكن أن تترك بصمتها في المجتمع المضيف.

ومن أهم التحديات وليس آخرها والذي  يُعرقل أي عملية اندماج للمسلمين داخل فرنسا هو أن فرنسا تحتضن منذ زمن بعيد أكبر جالية إسلامية في أوروبا ومع ذلك تدعي الآن وجود جهود من طرف خفيّ تسعى لتغيير النظم الاجتماعية الغربية عبر فرض الآراء الدينية الإسلامية على فرنسا وأوروبا. وتدعي فرنسا أيضا وجود “قوى ظلامية” و”ناشطين سياسيين دينيين” و”تيارات سياسية متطرفة” تهدف إلى تدمير الديمقراطية الغربية وأسلوب حياتها المبني على الحرية والمساواة.

يقول المؤرخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، صاحب إحدى أهم الدراسات عن الحالة الدينية في فرنسا، في كتابه “الدين في الديمقراطية”، إنّ العلمانية في الغرب بصفة عامة توقفت عن امتلاك معنى سياسي مقبول، في الوقت الذي امتلك الإيمان الديني القدرة على التكيُّف مع الظروف العلمانية المعاصرة للحياة الاجتماعية والشخصية.

هنا تحديداً يشرح غوشيه أسباب دهشة المسلمين المقيمين في فرنسا، وأسباب الهجوم الفرنسي الرسمي والشعبي المتكرر على الحجاب. يرى غوشيه أن ذلك كله يأتي في سبيل إضفاء بُعد نضالي على العلمانية ومَدِّها بالحيوية التي افتقدتها العلمانية الفرنسية بعد أن فقدت كل مصادرها الروحية الذاتية، وصارت العلمانية الفرنسية عبارة عن هوية قلقة مهووسة بنقيضها، تستدعيه طوال الوقت وتصارعه طول الوقت.

وأخيرا لا يمكنني أن أدعي أن هناك حلولا سحرية لما يتعرض له المسلمون في أوربا عامة وفرنسا خاصة؛ ولكن أحسب أن وظيفة كل مثقفي المسلمين أن يقوموا بالدور الذي يستطيعون من خلاله الدفاع عن حقوقهم والبحث في القوانين الغربية عما يضمن لهم هذه الحقوق وكذلك العمل على الدعوة للحوار ونشر الصورة الأصيلة للإسلام دحضا للصورة المشوهة التي يحاول أعداؤه أو الجاهلون من متبنيه إيصالها للآخر..

كلنا مسؤول بشكل أو بآخر عن خوض هذه المعمعة لإثبات الذات بحكمة وأهم من كل هذا إيجاد هيكلية لتوافق المنظمات والملتقيات والتجمعات الإسلامية فيما بينها مما يضفي عليها نقطة من نقاط القوة التي تجعلها مسموعة الصوت..

وفي النهاية لن نكون متشائمين، فالله تعالى وعد في كتابه العزيز:

 ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 5، 6].

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى