
محمد بن إبراهيم الشيباني:

رجل أعطاه الله تعالى من الخيرات التي تكفيه وأزواجه وذرياته وقراباته الأقربين له والأبعدين وعماله في مؤسساته وشركاته وأملاكه الأخرى التي لا تُعد ولا تُحصى، أتتصورون هذا الرجل لا يعطي من كل ما ذكرت لا ديناراً ولا درهماً، ولم يخرج يوماً لا صدقة ولا زكاة ولا مساعدة مما نرى ونسمع ونقرأ عن فلان المحسن، الذي أنفق من زكواته وصدقاته وأنواع الخيرات التي بذلها في حياته ومماته، مما يغطي عين الشمس في ديار هذه البسيطة المبسوطة، أتتصورون ذلك؟! لا أحد يتصور ذلك، وإن تصوره فسيقول في نفسه إنه كذب وافتراء على الرجل وتقوّل عليه، بل هو حسد وغل من عند الناس.
ولكن، ما قولكم لو كان ذلك حقيقة وصدقاً ونقلاً صحيحاً عدلاً لم يفتر عليه أحد الكذب؟! وماذا لو أن الأعداد الهائلة التي ذكرت لم تنل منه ما يستحق أن يطلق عليه أنه محسن أو منفق؟!
الأصناف تلك التي ذكرت في صدر المقالة، لم تعط لهم من أمواله لا دينارا ولا درهما، بل ولا كلمة عدل أو خير أو بر تؤثر عنه، وإن أخرج شيئاً يسيراً أخرجه سمعة ورياء، حتى لا يؤثر في مكانته في مجتمعه وبين أقرانه!
إنه الاستدراج الذي ذكره ربنا في كثير من الآيات، ونبيه في كثير من أعلام نبوته، كما جاء في قول ربنا: «والذين كذّبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون». (الأعراف: 182).
والاستدراج هنا كما قال أهل التفسير: هو الأخذ بالتدريج، منزلة بعد منزلة. أي إعطاء النعم تلو الأخرى للبشر من دون بذل المال في الخيرات، ويعني ذلك: أن يُحط درجة بعد درجة إلى المقصود. أي ينزل ثم السقوط والانهيار. قال أحد العلماء: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. أي بذلاً وعطاء، وهو عمل من يعمل لئلا ينقطع عنه ذلك الخير.
وعندما قيل لذي النون: ما أقصى ما يُخدع به العبد؟ قال بالألطاف والكرامات! أي بالاستدراج!
إذاً، إذا رأيت ذا نعمة (أموال وعقار وسيارات..) ولا يخرج من ماله شيئاً، ولا يراعي فيها رعاية لله ولا عباده فقل: «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً»، ولا تنخدع به فإن حياتك أبرك من حياته المعذّبة.
وعلى المرء ألا ينخدع بالمظاهر والبهارج التي عند البشر، لأنه لا يعلم من أين اكتسبوها وكيف حصلت، ولعلها استدراج لوقت السقوط، أو كما قيل في الأمثال الدارجة «يجمعها الكاددي، ويأخذها الراددي»، أي اتيان الموت! والله المستعان.
- النهاية:
«مال البخيل ما ياكله إلا العيار»!