
د. حمد العصيدان:

على عكس المنطقي والمفروض، يشهد العالم انخفاضا كبيرا في أسعار النفط، التي لامست مستوى الـ60 دولارا للبرميل، والتي وصلت في ظروف مشابهة للظروف الحالية إلى مستوى 110 دولارات، فما السر يا ترى في هذا السير عكس الاتجاه بشكل مريب وغريب؟
وما يزيد من الحيرة لمن لا يعرف بواطن الأمور، أن منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك» قابلت هذا الانهيار ببرود كبير، وقررت في اجتماع ممثليها الأخير الإبقاء على مستوى الإنتاج كما هو، رافضين خفضه لوقف الهبوط، وهو ما يشير بأكثر من علامة استفهام، ولا سيما عندنا هنا في الكويت، حيث رأينا هلع الحكومة من هذا الانخفاض والإجراءات التقشفية التي أعلن عنها مجلس الوزراء في سياسة «شد الحزام» حيث قلصت النفقات وتوقف الصرف على اللجان والفرق الوزارية، فما سبب الهلع الداخلي من الأمر، فيما خارجيا نبدي رضانا بالانخفاض، معلنين قبول أن يصل السعر إلى 60 دولارا؟
الراصد للوضع الإقليمي والدولي سيستنتج من دون عناء تفكير كثير سبب ظاهرة انخفاض أسعار النفط حاليا، وهي التي يجب أن ترتفع إلى مستويات كبيرة في ظل حالة التوتر العالمية والحروب القائمة، من العراق وسورية ولبنان، مرورا بمصر وليبيا وحتى تونس والجزائر، تعريجا على أفريقيا من الصومال شرقا إلى نيجريا غربا، وانتقالا إلى أوروبا وحرب أوكرانيا. فأمام هذا الوضع يجب أن يلامس سعر البرميل 120 دولارا، لكن الواقع يقول إنه ينخفض إلى نصف هذا السعر المستهدف مع قبول أكثر الدول المصدرة للنفط بذلك على المستوى الخارجي، باستثناء دولتين.
فلعبة الأمم تقول إن الدول إذا لم تستطع مواجهة عدو، لسبب ما فإنها تستخدم القوة الناعمة لإخضاعه، وليس أقوى من قوة الحرب الاقتصادية، وهذا الذي حصل. فروسيا وقفت في وجه الغرب وعملت على تقسيم أوكرانيا، وضمت إليها شبه جزيرة القرم، والآن تساعد الانفصاليين الأوكرانيين في الشرق بالسلاح والرجال للانفصال والانضمام إليها، وهو الأمر الذي أزعج الغرب كله بزعامة أميركا مع اتجاه أوكرانيا الجديدة تجاه حلف شمال الأطلسي، فكان لا بد من تركيع الدب الروسي بعيدا عن المواجهة المباشرة، ولا سيما أنه يسبب صداعا للحلفاء في ملفات عدة، أقربها ملف القضية السورية، فبدأت الحرب بالحصار الاقتصادي ووقف الاستيراد من روسيا، وصولا إلى خفض أسعار النفط التي تشكل عصب الاقتصاد الروسي، فكان أن هبط سعر الروبل ــ العملة الروسية ــ وفقد ثلثي قيمته، ما يعني أن القيصر لن يصمد طويلا أمام اتحاد عالمي ضده، وسيركع مهما طال صموده، وهنا ندخل نحن ــ دول الخليج ــ طرفا في هذه اللعبة، شئنا أم أبينا.
وهناك خصم آخر يشاغب في وجه العصبة الغربية، ولا بد من تأديبه، بالركوع الاقتصادي، وهو إيران التي تشكل هاجسا لربيبة الغرب ــ إسرائيل ــ في ملفها النووي، ولو أن الأمر يعود لهذه الأخيرة، لكان الغرب وجه ضربة عسكرية قوية لمنشآت إيران النووية منذ زمن، ولكن حسابات واشنطن ولندن وبرلين تختلف عن حسابات تل أبيب، فكان أن أفسحت الدول الغربية لدولة الملالي بالتورط في المستنقع العراقي، ومن بعده السوري، لتنفق الآن المليارات من ميزانيتها لدعم حلفائها هناك، سواء بالدفع النقدي أو السلاح والرجال، ولمزيد من الإرهاق جاء خفض النفط الذي يمثل لطهران ــ كما لروسيا من قبلها ــ عصب الاقتصاد، وخفض النفط يعني هبوط الموارد المالية، ما يدخل الدولة في أزمة خانقة، تستدعي إجراءات تقشفية تستوجب بالتبعية الخضوع لمطالب الغرب،على الرغم من المكابرة التي يبديها ساسة البلد ومرشدها.
إذاً هي لعبة عالمية، ندخل فيها لاعبين ومؤثرين شئنا أم أبينا، ولا أعتقد أن دولة من دول الخليج تستطيع أن تسحب نفسها من هذه اللعبة، لأنها ستجد أنها تورطت في أزمات هي في غنى عنها. ومقابل ذلك لا نملك إلا الانتظار حتى يطلق حكم اللعبة صافرة النهاية.
المصدر: الراي.