الغريب يكتب : علي الدانوب

كنت أجلس فى أحد المقاهى الصغيرة بفيينا على ضفاف الدانوب أشاهد المراكب تشق النهر حاملة الركاب فى جولات سياحية، وهم يلوحون بأيديهم فى سعادة للجالسين على ضفة النهر عندما استمعت إلى حديث جانبى فى الطاولة المجاورة بين شخصين يجلسان مثلى فى استرخاء ويتابعان مرور السفن. عبّر أحدهما عن أمنيته بأن يقضى العمر على متن مركب سياحية، حيث الماء والشمس والهواء والبشر المتجددون كل يوم بما يحمله هذا من آفاق إنسانية أجمل وأرحب، وأبدى استعداده للقيام بأى عمل على ظهر المركب مادام يكفل له البقاء والمبيت فى هذا المكان الجميل بعيداً عن سخافات البشر على اليابسة. سأله الآخر: وهل تعتقد أن الناس تترك سخافاتها على ضفة الميناء قبل الصعود للمركب.. يا لك من ساذج!.. قال هذا ثم أردف: عن نفسى كلما جلست بهذا المقهى ذكرّنى مرور المراكب أمامى بالسنوات التى قضيتها أعمل فى كروز بالبحر الكاريبى ينقل أثرياء العالم بين الموانئ والشواطئ الساحرة، وهى السنوات التى أعتبرها الأسوأ فى حياتى بسبب الضغط النفسى والجهد العصبى والعضلى والأعباء التى لا تنتهى فى خدمة السادة المترفين!.
دفعتنى هذه المناقشة للتفكير فى هذا الأمر الذى أثاراه وهما يجلسان بجانبى دون أن يلحظا أننى أتابعهما.. هذا الرجل الذى عبّر عن أمنيته بأن يعمل على مركب تجوب البحار أو تتنقل عبر الأنهار ليس فريداً من نوعه، فهناك الكثيرون مثله يحلمون بحياة يكون التنقل والسفر جزءاً من مفرداتها، ولا يختلف عن ذلك الذين يحسدون كابتن الطائرة أو مضيفة الطيران على الرحيل الدائم والتمتع بكتاب الدنيا الذى تتغير صفحاته كل يوم. أما الرجل الآخر فقد عبّر عن الذين تحققت أمنياتهم فجربوا العمل على متن واحدة من سفن الأحلام هذه المرتبطة فى خيال الملايين بالحب والمغامرة واللهو الجميل، لكنه على استعداد لأن يصدم الحالمين ويخبرهم أن العمل على متن سفينة كهذه لم يحمل له سوى الشقاء!.
فى رأيى أن الغرض من السفر هو ما يفصل بين أن يكون سفر الشخص متعة خالصة أو هماً مقيماً.. أو شيئاً وسطاً بين الاثنين. فالمسافر فى إجازة على متن مركب أو طائرة تكون أفكاره مرتبطة بالسعادة والمرح، وهو يعتبر السفينة والطائرة جزءاً من هذا المرح.. أما القبطان فهو مشغول بقراءة العدادات وحسابات الوقود وارتفاع الموج ودرجة المد والضغط الجوى ومستوى الخدمة وراحة الركاب، وكذلك العاملون على المركبة يشغلهم طهو الطعام ونظافة الكبائن وتفريغ المراحيض وإعداد المسرح للعرض المسائى. وحتى عند رسو السفينة أو هبوط الطائرة فإن طاقم العمل الذى يتحرر مؤقتاً من الخدمة وتصير أمامه ليلة أو ليلتان قبل التحرك يكون مشغولاً بالتجهيز لرحلة العودة ولا يجد الطاقة النفسية المؤهلة للاستمتاع بالرحلة، ذلك أن «مود» العمل يختلف عن مود الإجازة.. كلاهما له مقتضياته وكلاهما يدفع المخ لإفراز ما يحفز على أداء المطلوب.
لهذا فإننى قد أتفهم دافع الراغبين فى العمل على متن سفينة أو طائرة باعتباره عملاً مختلفاً له مشقته، وقد تكون به بعض المتعة والفائدة.. أما الذين يحسبونه رحلة جميلة متصلة فأولى بهم أن يسألوا العمال الذين رأيناهم على متن السفينة تايتانيك فى الأفلام، وكانت كل مهمتهم هى تزويد المراجل بالفحم على مدار الساعة!
نقلا عن المصري اليوم