
في صغرنا كان الوالد رحمه الله تعالى شديداً علينا في مسألة التعليم والدراسة، وكان لا يقبل أن يرى «الدُّوّيحَة» وهي الدائرة الحمراء التي كانت توضع حول درجة الرسوب في الشهادة قديماً.وكان بعض الأقارب والأقران ينتقدون هذه الشدّة في الوالد، لكنه كان يُخبرنا عن تجربته مع الأُمية وكيف أنه لو كان متعلماً لتغيرت كثيراً من أوضاعه الوظيفية، ولا يريدنا أن نعيش التجربة نفسها.هذه الشّدة من الوالد جعلتنا وإخوتي من المتميزين في تحصيلنا الدراسي بين من حولنا، عشنا مرارة قسوتها، وتهنّينا بعد ذلك بحلاوة ثمرتها.هناك حقيقة لا بد أن يفهمها كل عاقل، وهي أنه ليس كل من خالفك أو قسى عليك، أو لم يحقق لك ما تريد فإنه عدوّ لك أو يكرهك. إن الطبيب الجراح ربما يقسو على المريض فيستأصل جزءاً من جسده، ليس كرها فيه وإنما حرص على إنقاذ حياته.
قد يمنع الأب بعض أبنائه من بعض الهوايات، كركوب الدراجات النارية أو غيرها وإنما يفعل ذلك حرصاً عليه لا كرها فيه، قد تكون الأم شديدة الحرص على التزام ابنتها باللباس الشرعي المحتشم، وهذا ليس من باب تقييد حريتها، وإنما لشدة الخوف عليها من جُرأة بعض الفاسدين.
قد تطلب من شخصٍ عزيز عليك أمراً، فلا يحققه لك وقد تكون من أحب الناس إلى قلبه، لكنه امتنع لمصلحة قد لا تراها، أو لا يستطيع التصريح بها، وقد يُقدم لك أحد الأصدقاء نصيحةً تستاءُ منها، لكنه رأى أهمية أن يُصارحك بها، فصديقك من صَدَقَك لا من صَدّقك.
في العمل قد تجد معارضة من بعض المرؤوسين لسياسة تتبعها في إدارتك، فلا تغضب أو تُخاصم أو تتهم أو تُسيء الظن، وتأمّل نوع المعارضة، وهل هي منطقية لها أسبابها ووجهتها، أم أنها فقط لتعطيل العمل؟
ويمكن أن ينطبق ذلك على بعض حركات المعارضة في الدول، فالمسؤول ينبغي أن يفرق بين المعارض الأمين الذي يريد مصلحة البلاد ومحاربة الفساد، وبين المعارض الذي تحركه المكاسب والمصالح الخاصة لنفسه أو حزبه أو عائلته.
ذكر الفضل بن الربيع أن الخليفة هارون الرشيد طلب منه أن يدله على رجل يسأله في أمر حاك في صدره، فدلّه على سفيان بن عيينة، فلما طرقوا بابه وعلم أن الخليفة بالباب خرج مسرعاً وقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلينا لأتيتك، فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دين. قال: نعم. فقال لوزيره: اقض دينه، فلما خرجوا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً. فدله على «عبد الرزاق»، فلما أتوه وإذ به يرد بنفس رد صاحبه الأول وقضى له هارون دينه، ثم قال للوزير انظر لي رجلاً آخر أسأله، فدله على الفضيل بن عياض، فقال: عظني، فقال الفضيل: إن عمر بن عبد العزيز لما تولّى الخلافة عدّها بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة. ثم نصحه بوصايا تتعلق بمعاملة الرعيّة، وذكّره بالله تعالى والآخرة، وبأنه سيقف بين يدي الله وحيداً، لن ينفعه مال ولا سلطان ولا جاه. فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه. فقال الوزير: ارفق بأمير المؤمنين، فقال الفضيل تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا.
فلما أفاق هارون أراد أن يكافيء الفضيل فأعطاه ألف دينار وقال: خذها، فأنفقها على عيالك، وتقوّ بها على عبادة ربك، فقال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟، فلم يأخذها وصمت فلم يكلمهم.
إن الحب الصادق والأمانة هي التي تدفعك إلى أن تَصْدُق مع من هو أمامك، وإن تَضمّن كلامك بعض القسوة، وفي المثل: «يا بخت من بكّاني وبكّى الناس عليّ، ولا ضحّكني وضحّك الناس علي ّ».