

د. عصام الفليج – الوطن:
تقول احدى الطبيبات: دخلت عليَّ في العيادة امرأة مُسنة بصحبة ابنها الثلاثيني، ولاحظت حرصه الزائد عليها، يمسك يدها، ويصلح لها عباءتها، ويمد لها الأكل والماء.
بعد سؤالي عن المشكلة الصحية، وطلب الفحوصات، سألته عن حالتها العقلية، لأنّ تصرفاتها لم تكن موزونة، ولا ردودها على أسئلتي مقبولة.
فقال: إنها متخلفة عقلياً منذ الولادة.
فسألته: فمن يرعاها؟
قال: أنا.
قلت: والنعم، ولكن من يهتم بنظافة ملابسها وبدنها؟
قال: أنا أدخلها الحمّام، وأحيانا تساعدها الخادمة، خلالها أحضر ملابسها، وانتظرها الى ان تنتهي، وأصفف ملابسها في الدولاب، وأضع المتسخ في الغسيل، وأشتري لها الناقص من الملابس.
قلت: ولم لا تحضر لها خادمة خاصة؟!
قال: لأن أمي مسكينة، مثل الطفل لا تشتكي، وأخاف أن تؤذيها الشغالة.
اندهشت من كلامه ومقدار برّه، فسألته: وهل أنت متزوج؟
قال: نعم الحمدلله، ولدي أطفال.
قلت: اذن زوجتك ترعى أمك؟
قال: هي ما تقصر، فهي تطهو الطعام، وتقدمه لها، ولكن أنا أحرص ان آكل معها حتى أطمئن عشان السكر.
زاد اعجابي ومسكت دمعتي، واختلست نظرة الى أظافرها، فرأيتها قصيرة ونظيفة، قلت: وأظافرها؟
قال: أنا يا دكتورة، هي مسكينة.
نظرت الأم لولدها وقالت: متى تشتري لي بطاطس؟!
قال: أبشري..ألحين أوديك الجمعية.
طارت الأم من الفرح، وقالت: الحين..الحين.
التفت الابن وقال: والله اني أفرح لفرحتها، أكثر من فرحة عيالي الصغار.
عملت نفسي أكتب في الملف، حتى ما يبين أني متأثرة، وسألته: ما عندها غيرك؟
قال: أنا وحيدها، لأن الوالد طلقها بعد شهر من زواجه بها.
قلت: أجل رباك أبوك؟
قال: لا..جدتي كانت ترعاني وترعاها، وتوفت الله يرحمها وعمري عشر سنوات.
قلت: هل رعتك أمك في مرضك، أو تذكر أنها اهتمت فيك، أو فرحت لفرحك، أو حزنت لحزنك؟
قال: يادكتورة..أمي مسكينة، من عمري عشر سنين وأنا شايل همها، وأخاف عليها وأرعاها.
كتبت الوصفة وشرحت له الدواء.
مسك يد أمه وقال: يالله على الجمعية.
قالت: لا..نروح مكة.
استغربت، فسألتها: ليه تبين مكة؟قالت: بركب الطيارة.
قلت له: بتوديها لمكة؟
قال: ان شاءالله، يمكن الفرحة اللي تفرحها اذا وديتها، أكثر أجر عند رب العالمين من عمرتي بدونها.
خرجوا من العيادة وأقفلت بابها، وقلت للممرضة: أحتاج للرّاحة.بكيت من كل قلبي، وقلت في نفسي: هذا وهي لم تكن له أماً، فقط حملت وولدت ولم ترب، ولم تسهر الليالي، ولم تُدرسه، ولم تتألم لألمه، ولم تبك لبكائه، ولم يجافيها النوم خوفا عليه، ولم..ولم..، ومع كل ذلك.. تجد كل هذا البر…! فهل سنفعل بأمهاتنا الأصحاء، مثلما فعل بأمه المتخلفة عقليا؟!
قصة قرأتها وتأثرت بها لصعوبتها، فهي موعظة لنا جميعاً لنعتبر، ولعل الذكرى تنفع المؤمنين.
اللهم اجعل والدينا من أهل الجنة، واجعل الحوض مورداً لهم، والرسول شافعاً لهم، والولدان المخلدون خدماً لهم، والقصور سكناً لهم، واغفر لهم وارحمهم، حيهم وميتهم، واجمعنا بهم في الآخرة، ولاتحرمنا برهم..اللهم آمين.
٭٭٭
قال ابن القيم: «كلُّ مسألة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرَّحمة الى ضدّها، وعن المصلحة الى المفسدة، وعن الحكمة الى العبث، فليست من الشَّريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل».