
من بيتي.. الى قبرك..
ومن قميصي الى كفنك..
في يوم رمضاني قائظ.. في زمن بعيد معبأٍّ بالسنين.. أطلقتني في هذه الحياة.. وقلتِ لها «كوني عليه بردا وسلاما»..
ولكن الحياة يا أمي.. لا تستجيب دعوات الأمهات – ربما قليلا – فرأيت فيها بعض ما دعوت لي.. ولكزتني فيها خناجر.. وسلختني ألسنة من لهب..
نار تدنو تارة.. وتارة تطير فوق رأسي..
أصبت كثيرا.. وأخطأت كثيرا كثيرا..
تعلمت كثيرا.. وجهلت أكثر..
اليوم يا أمي.. يسمونه عيد الأم..
الأم.. يا أمي.. عيد.. هي عيد الدنيا..
وكل يوم في الدنيا عيد.. ما بقيت أم..
لست من زوار القبور.. وإلا لكنت حارسا مقيما على قبرك..
أدري أنك لست في حاجة لحراستي، فثمة من يحرسك هناك.. يرفرف حولك وفوقك بأجنحته الشفافة.. ويرتل في سمعك تراتيل السلام..
دمعي سخي لا شحيح.. يسح كثيرا ولا ألجمه..
إنه نهري إليك..
رفعت فيه أشرعة الوفاء لك.. ولذكراك الحية في داخلي.. والمحبوسة في عيني..
صوتك مازال مطلقا في أذني.. يناديني.. يهتف بي.. يدعو لي.. يحدثني بأخبار الدنيا التي رحلت عنها.. وأنا الحي فيها..
أنت رحلت عن الدنيا.. ولكنك عني ما رحلت..
إن الأموات يا أمي.. ليسوا هم من يرحلون عن الدنيا..
ولكنما الأموات يا أمي من يرحلون عن الذاكرة..
أولئك هم الأموات لا أنت.. وأنت في ذاكرات كل من عرفك.. ورآك.. وسمع صوتك.. وطاف فوقه حنان قلبك..
كم جمعت من مفارقين.. وقربت بين متباعدين..
وكم ذرعت دروبا زرعتها بخضرة قلبك.. فأينعت وفاءت وظللت..
كان حبك للناس فطرة فيك وغريزة.. ولم يكن تكلفا ولا تصنعا..
لم تدرسيه في مدارس وأنت التي لم تخط قدماك يوما خطوة واحدة الى مدرسة.. أو «مطوعة».. تتلو عليك ما تيسر من كتاب الله..
وكان زادك وأنت تلاقين حضرة ربك خمس مرات كل يوم.. فاتحة الكتاب.. وربما اثنتين أو ثلاثا من قصار السور.. ورغم هذا ما جلس اليك أحد وعرف أنك «أمية».. لا تقرأ ولا تكتب..
كنت خير متحدثة في شؤون الدنيا، وأخبار من سلف وما سلف..
وكم قصدك من قصدك.. يسألك ويستفتيك فيما أشكل عليه أو جهله..
فكنت المعلمة «الأمية».. التي يتعلم منها المتعلمون..
لست يا أمي ـ بهذا ـ أرثيك.. فأنا أعجز عن رثائك.. ولكنما بما أكتب في عيد الأمهات.. أزفك الى المكانة التي تليق بك، وأيضا.. أعجز!