دولي

بأنياب “الموساد الإسرائيلي”: هكذا بدأ الأسد بأكل حلفائه الإيرانيين

أحمد رياض جاموس||

لم يمضِ شهر على حادثة اغتيال القيادي البارز في “الحرس الثوري” الإيراني، رضي موسوي، بضربة إسرائيلية في ريف دمشق، حتى استيقظت العاصمة دمشق أول أمس الجمعة 20 من الشهر الجاري كانون الثاني/يناير، على ضربة قاسية تلقاها “الثوري” الإيراني، وهي مقتل 6 قادة كبار، أهمّهم مسؤول استخبارات “فيلق القدس” في سوريا، صادق أميد زاده.

مقتل القادة السّتة جاء عبر قصف صاروخي إسرائيلي استهدف مبنىً سكنياً سُوي بالأرض كان يستخدمه “الحرس الثوري” في حي المزة (فيلات غربية) غرب دمشق، وهي المنطقة التي تقع ضمن مربع أمني شديد الحصانة والتعقيد وفيها تجمّع لعدد من السفارات والمنظمات الأممية، كما أنه لا يبعد سوى 2.8 كيلو متر عن القصر الجمهوري، وقرابة 2.6 كيلو متر عن السفارة الإيرانية.

ولعل من الطريف القول، إن اجتماع القادة الإيرانيين في المبنى كان بهدف بحث الاغتيالات الإسرائيلية ضد المسؤولين الإيرانيين في سوريا، ولا سيما بعد اغتيال رضي موسوي في السيدة زينب جنوب العاصمة دمشق، والذي يُعد الصندوق الأسود لـ “فيلق القدس”، والشخصية الأهم بعد قاسم سليماني.

من هو “الحاج صادق”؟

نشر “الحرس الثوري” عبر بيان أسماء قتلاه الذين يصفهم بـ”المستشارينَ”، وهم حجة الله امیدار، ويُعرف أيضاً بـ “أميد زادة” واسمه الحركي الحاج صادق، علي آغا زادة، حسین محمدي وسعید كريمي، فيما ذكرت وكالة “مهر” الإيرانية أن من بين المستشارينَ ضابط استخبارات “فيلق القدس” في سوريا، سردادر حاج صادق أميد زاده الملقب بـ”الحاج صادق” برتبة عميد، ونائبه غلام محرم، الملقب بـ”الجهادي حاج محرم”.

أفراد الأمن والطوارئ يبحثون بين أنقاض مبنى دمر في غارة إسرائيلية مزعومة في دمشق في 20 يناير، 2024. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

وكانت مسؤولية صادق هي الجانب الاستخباراتي ضمن “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” في الأراضي السورية، وحسب وثائق استخباراتية ضمن تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” في حزيران/يونيو 2023، فإن “صادق زاده” كان مكلّفاً بمهمة تصعيد الهجمات ضد قوات الولايات المتحدة داخل سوريا.

زاده حدّد على وجه الخصوص عربات “همفي” و”كوغار” المدرعة كأهداف معينة، كما أنه مسؤول عن إرسال عناصر مجهولة لالتقاط صور استطلاعية للطرق التي تستخدمها القوات الأميركية في شمال وشرق سوريا.

وخلال اطّلاع بسيط على محركات البحث يظهر أن صادق زاده كان نادر الظهور، وهو واحد من بين 48 إيرانياً أَسرهم “لواء البراء” أحد التنظيمات المعارضة في الغوطة الشرقية على طريق مطار دمشق الدولي عام 2012، قبل أن يطلق سراحهم بوساطة قطرية وبمقابل مادي كبير حصل عليه الفصيل المعارض آنذاك. 

وقد تمّ نشر اسمه لأول مرة من قِبل “منظمة مجاهدي خلق الإيرانية” (PMOI) في عام 2012 كإرهابي ضمن مجموعة من الإرهابيين المصدّرينَ لنظام الملالي لقمع الاحتجاجات في سوريا.

اختراق أمني

الاستهدافات الإسرائيلية لشخصيات إيرانية تُعد من قيادات الصف الأول في “الحرس الثوري” الإيراني، باتت تثير تساؤلات واسعة عن كيفية صيد الطيران الإسرائيلي لهؤلاء الشخصيات الاستخبارية، والتي من المفترض أنها محاطة بتعزيزات واحتياطات أمنية واسعة توجب صعوبة واستحالة للوصول إليها، لا سيما أن إسرائيل سبق لها أن اصطادت أحد الرؤوس الإيرانية وهو موسوي في مشهد مشابه تماماً لسيناريو اصطياد صادق.

أشخاص يحضرون مراسم تشييع رضي موسوي، أحد قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا، الذي قُتل خلال الهجمات الإسرائيلية على دمشق في 27 ديسمبر/كانون الأول 2023. (تصوير كرار عيسى/غيتي)

ولعل موقع اصطياد صادق مع رفاقه هو ما يؤكد اتخاذ إسرائيل سياسة ردع تقوّض قدرة إيران على استخدام الأراضي السورية في أي مكان تراه يشكّل خطراً على أمنها، وهو ما عايناه واضحاً أنها استهدفت صادق ضمن مربع أمني هو الأعقد من حيث التّحصين والرقابة يذكرنا تماماً باغتيال القيادي السابق في “حزب الله”، عماد مغنية، عام 2008 ضمن منطقة كفرسوسة التي تضم مقرات حكومية وأمنية عالية المستوى ووحدات سكنية فاخرة لكبار المسؤولين وموظفي الدولة.

ومن الثابت أن الاستراتيجية الاستخباراتية تقتضي توفير معلومات هائلة عن الهدف المراد اصطياده مع الامتلاك لكل المعدات التقنية والدقيقة والأسلحة الذكية، ورغم ذلك فإن حدوث ثغرات وسقطات ولو كانت نادرة ضمن أي عملية اغتيال واردة جداً في العمليات الإسرائيلية. 

إلا أن الملاحظ هو نجاح جميع عمليات الاغتيال الإسرائيلي حتى الآن، ما يعني بالضرورة وجود طرف من التركيبة العُليا للسلطة السياسية السورية وشخصيات نافذة في الأجهزة الأمنية يدقق المعلومات الاستخباراتية قبل أن تصل لـ”الموساد” الإسرائيلي الذي ينتهج تفعيل جناح الاغتيالات كلما اقتضت الحاجة.

عقب حادثة المزة، قال إسماعيل كوثري، عضو لجنة الأمن القومي بالبرلمان، في مقابلة على قناة “إيران أوبزرفر”، ردّاً على ما إذا كان هجوم دمشق بسبب اختراق استخباراتي لحكومة دمشق و”محور المقاومة”، إن “إسرائيل كانت في لبنان وسوريا فهناك عملاء في الجوار ويجب القبض على عملاء تجسس في دمشق”.

فيما اتّهم الصحفي الإيراني، سيد صادق حسيني، على حسابه في موقع “إكس” (تويتر سابقا)، روسيا بشكل واضح بتسريب المعلومات لإسرائيل، مبيّناً أنه “منذ أن زاد الوجود الروسي في سوريا، شهدنا زيادة في الاغتيالات والغارات الجوية التي تشنّها إسرائيل ضد القوات الإيرانية”، وموضحاً أن عمليتي الاغتيال الناجحتين الأخيرتين (رضي موسوي والحاج صادق أوميد زاده)، أدت إلى زيادة الحاجة إلى إعادة النظر في العلاقات بين إيران وروسيا في دمشق.

أما الكاتب والباحث السياسي الإيراني، مصدق بور، رأى في مقابلة له، أن تصفية إسرائيل لقائد استخبارات “فيلق القدس” بدمشق هي ضربة مؤلمة، وأن هناك اختراقاً مخابراتياً على الأرض السورية ودائماً ما يواجه الجانب الإيراني هذه المشكلة على الأرض السورية دون غيرها من الأماكن التي توجد فيها إيران.

ضبط النفوذ الإيراني في سوريا

ليس من المستبعد أن تقوم السلطات السورية بإعطاء إحداثيات المواقع التي يتمركز فيها ضباط “الحرس الثوري” الإيراني، فهذا جزءٌ من تعاونها مع إسرائيل بما يلبّي متطلباتها وبما يخدم مصالحها واستمرار وجودها وبقائها بالسلطة في سوريا، لا سيما أن حكومة دمشق بعد أن نبذها النظام الدولي تعلم أن مفتاح القبول الدولي هو بيد تل أبيب. 

منظر لملصق رضي موسوي، أحد قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا، الذي توفي نتيجة الهجوم الإسرائيلي على العاصمة السورية دمشق، في أحد شوارع طهران، إيران في 27 ديسمبر 2023. (تصوير فاطمة بهرامي/غيتي)

ومن جهة أخرى، فإن إسرائيل ترحِّب بالتعاون الرسمي من طرف دمشق، وفي تحويل علاقتها الممتدَّة معها منذ نحو نصف قرن إلى طابع أكثر رسمية، وهي تُدرك أنَّه الخيار الأفضل لأمنها القومي مقارنة مع أيّ فاعل مرّ على سوريا خلال العقد الفائت، وهو الإدراك الذي دفعها لمنع سقوطها.

موقع “إسرائيل هيوم”، كان قد نشر تقريراً في نيسان/أبريل 2022 عن خطة متعددة المراحل تشير إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، سعى إلى إعادة شرعنة الرئيس السوري، بشار الأسد، عبر مبادرة إقليمية تعيد الأخير إلى “جامعة الدول العربية”. 

المقابل، اتفاقٌ يلزمه بـ”سحب القوات الإيرانية” من سوريا؛ إلا أنه أمام فشل الانتخابات في إسرائيل في فرز حكومة متفق عليها وما لازم ذلك من تغيير لرأس الهرم في الرئاسة الأميركية عقب الانتخابات الرئاسية التي أطاحت بترامب، فقد كتب لهذه الخطة بالبقاء في الدرج. 

من جهتها فقد شهدت قاعدة “حميميم”، كانون الأول/ديسمبر 2020، لقاءً جمع بشار الأسد بمسؤول أمني إسرائيلي، وبحضور عسكري واستخباراتي روسي، ووفقاً للمعلومات الموثوقة، فإنّ الأسد عرض عدّة مطالب، من ضمنها الحصول على مساعدات مالية لسداد الدين الإيراني، وبالتالي فتح المجال له لإخراج إيران من سوريا، ودعمه لتثبيت حكمه، وهو ما اشترك مع مطالب إسرائيل بإخراج إيران من سوريا بشكل كامل.

يمكن فهم تركيز إسرائيل بانتقائية استهدافاتها لقادة “الحرس الثوري”، بأنها محاولة لإبعاد الأسد عن صراعها مع إيران التي باتت تتمتع بنفوذ داخل الطبقة السياسية والعسكرية في سوريا، والتي لا تفتأ عن مطالبة الأسد بديونها البالغ قدرها نحو 50 مليار دولار مع شعورها بالاستياء من تخصيص دمشق لروسيا بغالبية الفرص التجارية في البلاد، رغم البصمة الاقتصادية الإيرانية الواضحة في تنويع استثماراتها، وقدرتها على انتزاع تنازلات سيادية كبيرة من الأسد والممتنع بدوره عن تنفيذ عشرات الاتفاقيات الاقتصادية التي وقّعها مع إيران من جهة، والرّد على الضربات الإسرائيلية التي تطال مقراتها الأمنية من جهة أخرى.

“الإدارة الثانية لشؤون غرب آسيا وشمال أفريقيا”، كانت قد أعدّت تقريرًا من 27 صفحة تمهيدًا لزيارة رئيسي إلى دمشق والتي كانت مقررة يومي 27 و28 ديسمبر/كانون الأول 2022، لكن الزيارة أُرجئت وقتذاك بسبب رفض الأسد توقيع مسودات اتفاق تتضمن معاملة الإيرانيين في سوريا معاملة السوريين في مجالات محددة، وهو ما يؤكد رغبة الأسد بالخروج عن العباءة الإيرانية أو على الأقل رسم حدود لتدخّلاتها الواسعة.

المحلل الاستراتيجي، العقيد مالك الكردي، رأى بأن الأسد تعرّض لموجة انتقاد قوية من مؤيديه قبل معارضيه على تلك الاتفاقيات الاقتصادية التي عقدها مع إيران وروسيا، والتي بمجملها تجرّد الدولة السورية من آخر أثواب سيادتها وتضعفها إلى آجال طويلة، وتنعكس سلباً على حياة المواطن مستقبلًا والذي يعيش على أمل انتهاء المحنة السورية والخروج من حفرة التردي الاقتصادي.

لافتاً في حديثه لـ “الحل نت”، إلى أن بشار الأسد أدرك أنه في مأزق كبير فهو لا يستطيع المُضي قُدماً في تنفيذ تعهّداته لدفع فاتورة الحرب، لذلك يجد بالمماطلة فرصة التخلص منها أملًا بتراجع الدور الإيراني بسورية تحت الضغوط الدولية.

لذلك يسعى سرّاً إلى إضعاف هذا الدور من خلال تقديم معلومات استخباراتية للدول المعنية، فيما يصرّ الإيراني على قبض الفاتورة عاجلًا خشية تزايد الضغوط وإخراجه من سوريا دون تحقيق أهدافه التي دخل لأجلها وضياع الملايين من الدولارات التي صرفها بالحرب السورية وساند فيها دعائم حكومة دمشق.

صراع الأجنحة الإيرانية والروسية

الغطرسة الإيرانية هي ما باتت تخيف الأسد والتدخل في القرارات السياسية السيادية ومشروعها في البقاء الطويل الأمد على الأراضي السورية بعد أن ساهم النظام الإيراني ببقائه في الحكم منذ العام 2011.

بأنياب الموساد الإسرائيلي هكذا بدأ الأسد بأكل حلفائه الإيرانيين (1)
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (يسار) يلتقي برئيس النظام السوري بشار الأسد في الرياض، المملكة العربية السعودية في 11 نوفمبر 2023. (غيتي)

فحسب منظور الأسد، فإن إيران أدت ما تم إحضارها لأجله ويجب ضبط نفوذها المتحكّم بمفاصل الدولة وقراراتها، إذ إنها باتت صاحبة أكبر انتشار عسكري في سوريا وحاضرة عسكرياً ومالياً واستخباراتياً، وعبر أذرعها الموالية المحلية والوافدة من الميليشيات الشيعية الموالية بالمطلق لطهران، فضلاً عن انقسام الأفرع الأمنية السورية وضباطها والحاضنة العلوية ما بين المعسكرَين الروسي والإيراني، وهو ما بات يُربك الأسد ويخرق تفاهماته عن بُعد مع تل أبيت، ويجعله في حرج مع الروس.

ورغم أن حكومة دمشق -نوعاً ما- أكثر اطمئنانًا للموقف الإيراني من أية تغيرات مفاجئة قد تطرأ على الموقف الروسي ومصالحه المتشابكة، إلا أن إيران وبالمقابل تُدرك أنَّ علاقة دمشق معها علاقة براغماتيَّة بحتة، وأنها تبحث جاهدة عن طريق تعيدها إلى المنظومة الدولية، وتساعدها على التخلّص من قيودها.

الأسد لا يريد أن تكون مناطق نفوذه جبهة احتياط لإيران، ولا يريد الإبقاء على معالم الحرب في البلاد التي تصرّ إيران على انتهاجها، كما أن ذاكرة طهران ما تزال حاضرة بالنسبة للأسد الأب الذي رسم لها حدوداً للتحالف في لعبة توازناته مع العالم العربي والغرب، وفي حرب الخليج الأولى بين الإيرانيين وصدام حسين.

حسب الباحث الكردي، فإن إيران على يقين بأن منظومة الحكم في سوريا يتنازعها جناحان: الأول يميل إلى الروسي وهو الذي يعرقل الوجود الإيراني ويقدم المعلومات الاستخباراتية لإضعافه، فيما الجناح الآخر هو الداعم للوجود الإيراني ولكنه بات يضعف تدريجياً لدى الكثير من الضباط العلويين الذين أخذوا يتحولون إلى الجناح الآخر، معلّلًا هذا التحول بأن “الضباط باتوا يدركون بأن الإيراني يعمل على مسح الشخصية السورية شاملة معها الشخصية العلوية”.

ويبدو أن الأسد وأمام هذَين الجناحَين يحاول أن يلعب على التوازن بين الكفّتَين، ولكن ضعف الدور الروسي بسبب الحرب الأوكرانية واستشعار الإيرانيين بالتهديدات التي تلاحقهم قام خلال الأيام الأخيرة بإجراء تغيرات بالقيادات الأمنية السورية لصالحه مستغّلًا هذا الضعف الروسي، في محاولة منه لإقصاء رجال المخابرات الموالينَ للإيرانيين وعلى رأسهم علي مملوك.

موقع الحل نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى