د.حمد العصيدان :

لم أكن أتوقع أن تصل درجة النفاق واللؤم العالمي إلى ما وصلت إليه في أيامنا هذه، فقد سمعنا عن ازدواجية المعايير، وقرأنا عن عالم المصالح الذي يتحكم بالسياسة، ورأينا المحسوبيات العالمية على حساب المبادئ.
ولكن أن نرى الإنسانية بكل معانيها وقيمها تسقط هذا السقوط المريع في مستنقع السياسة الآسن، وأن نرى شعارات الأمم المتحدة البراقة لسمو الإنسان وحقوقه وكرامته تتهاوى في هوّة العجز والخذلان، فلم يكن متوقعا إلى هذا المستوى من الانحطاط القيمي والأخلاقي.
حدثان شهدهما الأسبوع الماضي حملا كل معاني التناقض والنفاق والازدواجية التي كنا نتعامى عنها، ونحاول عدم تصديقها، بحجج واهية ومبررات غير مقنعة، فما بين لبنان وفرنسا يفصل البحر الأبيض المتوسط، ليكون هذا الحاجز المائي فاصلا بين الإنسانية والوحشية، بين قيم الإنسان النبيلة وعالم السياسة العالمية المنحط بما يحمله من صلف واستعلاء على الأمم.
في لبنان جاءت العاصفة زينة تحمل ثلوجها البيضاء التي تحولت إلى أكفان للأشقاء النازحين السوريين في مخيمات المعاناة بعرسال وأخواتها، فتجمد من تجمد، ومات من مات، فلم تحرك صور المتجمدين شعرة في جفون العالم الذي يتابع، بينما اعتداء «فردي وفريد» على صحيفة في باريس خلّف ضحايا، استنفر العالم ودفعه لإعلان حال الطوارئ، لنرى لأول مرة رئيس دولة كبرى أو صغرى يزور سفارة ليقدم التعازي، بضحايا اعتداء، وهو ما قام به الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما زار سفارة فرنسا وقدم تعازيه وأعلن تضامنه معها في محاربة الإرهاب.
أما موت شعب كامل بسبب إرهاب نظام أبقته الحسابات السياسية العالمية في منصبه وتركته يعيث في بلده فسادا، فهذه مسألة فيها نظر. وأكفان الموت الأبيض التي غطت خيام اللاجئين وأودت بحياة العشرات منهم، فهذه لا تستحق إدانة أو تنديدا أو حتى إعرابا عن الأسف والتضامن. هذا هو عالمنا المنافق، السياسة فوق الإنسان، والحسابات المصلحية فوق القيم الأممية، ولا عزاء للشعب الشقيق الذي دفع خلال 4 سنوات من عمر مطالبته بالحرية والديموقراطية ربع مليون شهيد، ومثلهم معتقلون وستة أضعافهم مشردون، وبلد أصبحت ركاما، فالشعب هو الملوم، لماذا يطالب بحرية؟ ولماذا يصرخ في وجه ظالم؟ لا يحق له ذلك، فالحرية والديموقراطية حق يقتصر على من هم وراء البحر الأبيض المتوسط، ومن أجل عيون إسرائيل فليمت الشعب السوري، المهم ألا يحصل هذا الشعب على حريته وديموقراطيته، ويوصل إلى سدة الحكم رجالا شرفاء يهددون أمن الصهاينة واستقرار دولتهم المغتصبة.
لا شك أن ما حدث الأسبوع الماضي بقدر ما كشف من نفاق العالم وانحطاط قيمه وازدواجية معاييره، كشف كذلك حجم الخذلان العربي والعجز عن القيام بأي مبادرة قد تخفف من وطأة المعاناة للاجئين السوريين، اللهم ما تقوم به الجمعيات ومؤسسات النفع العام من عمليات جمع تبرعات وشراء ما يخفف عن الأشقاء وطأة البرد.
فهل يعقل أن الأمة العربية وصلت من العجز إلى درجة لم تعد تستطيع القيام بأي خطوة تحفظ لها مكانتها وقيمتها بين العالم؟
نعم يعقل، فالمتابع لوقائع ما تشهده بلادنا يعرف أنه لم يعد للعرب قرار، فالحوثيون اجتاحوا اليمن وسيطروا عليه وفرضوا سياسة الأمر الواقع، ولم نسمع من العرب تعليقا، وفي العراق تغلغلت إيران وفرضت سياستها، فأزاحت وجها من وجوهها ووضعت وجها آخر، والعرب رحبوا وما عرفوا أن المنصرف والقادم وجهان لعملة واحدة، وكذلك ما تشهده لبنان من تحكم «حزب الله» بقرار البلد السيادي لدرجة أنه يمنع تعيين رئيس جمهورية إلا إذا عين من يريده، إضافة لما تشهده ليبيا وتونس.
إذن نحن أمام عالمين منافق وعاجز، ومع هذا الوضع لا نتوقع أن نرى تغييرا في المدى المنظور إلا إذا تغيرت قواعد اللعبة ودخل لاعبون جدد يفرضون قواعدهم، وهذا مستبعد.


