بقلم/ المستشار محمد تهامي
في قرية هادئة لا تختلف ظاهريًا عن أي بقعة أخرى، كانت هناك أسرة تُعيد تعريف معنى الحياة، لا بالكلمات، بل بالفعل، الأب، رجل لا تهدأ خطاه، يرحل شرقًا وغربًا، يحمل على كتفيه أثقال الزمن ليؤمن لأسرته حياة كريمة، لكن خلف هذا الغياب، هناك حضور لا يقل عظمة: الأم. تلك المرأة التي اختزلت حكاية التضحية في ابتسامة صامدة، وفي يد تمسح عن وجوه أبنائها تعب الأيام، وغرس قيم لا تُمحى مع الزمن.
وسط هذه الأسرة البسيطة، برزت أميرة، ابنة الصف الثاني الإعدادي، ليست كأي فتاة في عمرها، منذ طفولتها، كان بريق في عينيها يوحي بأنها تحمل شيئًا استثنائيًا، كانت تقضي الساعات الطويلة بين صفحات الكتب، لا كهاوية تتنقل بين القصص، بل كقائدة تُنقب عن المفاهيم العميقة، لم تكن أميرة تبحث فقط عن المتعة، بل عن مفاتيح تغيير الذات والعالم.
في يوم ما، بينما كانت أميرة تجلس في ركنها المعتاد، احتضنت بين يديها كتاب “العادات الذرية”، تمعنت في كل صفحة وكأنها تحاور الكاتب مباشرة، لم تكتفِ بالقراءة؛ حملت دفترها، وأخذت تُسجل بخط يدها الملخصات، تضيف عبارات من عقلها الواعي وكأنها تؤلف سردًا جديدًا، كانت أميرة تؤمن بأن التغيير الحقيقي يبدأ من التفاصيل الصغيرة، تلك العادات التي تصنع الفرق الكبير، كما قرأت، لكنها لم تتوقف عند هذا الكتاب، انتقلت إلى “وسائل الإقناع” لنيك كولينز، حيث تعلمت أن الكلمات قوة، وأن التأثير لا يأتي بالصراخ بل بالفهم العميق لنفوس الآخرين، كانت تستدل في تلخيصها بعبارات لفلاسفة مثل مالك بن نبي، الذي قال: “إن الإنسان القادر على بناء فكرته قادر على بناء العالم بأسره.” ولم تتوقف فإذ بكتاب توم فريدين ” المخ الأبله” حيث الدماغ البشري وكيفية تأثيره على السلوك الإنساني، وأفكار جريئة حول القدرات العقلية والتحديات التي قد يواجهها البعض في التعامل مع حياتهم اليومية، وكأنها تُدرك أن هذه المعرفة ستجعلها ليست فقط فتاة عادية، بل نموذجًا للقيادة التي تحتاجها المجتمعات.
ولم يكن هذا كل شيء، وسط هذا الشغف بالكتب والقيادة، كانت أميرة تحفظ القرآن الكريم، كما تفعل شقيقتاها الأكبر منها، كل مساء، كانت ترتل الآيات في غرفة العائلة، صوتها يتناغم مع أذكار المساء، ليذكّر الجميع أن القيادة الحقيقية تبدأ من الروح قبل العقل.
هذه الأسرة لم تكن عادية في أي من جوانبها، الأم، تلك التي ربت أميرة وشقيقاتها، لم تكن فقط مربية فيزيائية، بل صانعة قادة، عرفت كيف تُشعل فتيل الشغف في قلوب بناتها، وكيف تجعل من البيت ساحة للحوار والتعلم، لم تكن تنهر أميرة حين تطيل القراءة، بل تشجعها على مزيد من البحث، مؤكدة لها أن القراءة ليست رفاهية، بل مسؤولية تجاه الذات والعالم.
وهنا تكمن القصة الحقيقية، ليست فقط في أميرة، بل في ذلك البيت الذي صاغ قيمه بحب وإرادة، كما قال القائل:” فإن الحضارة ليست بناء حجريًا، بل بناء فكريًا وروحيًا” وكل كلمة كتبتها أميرة في تلخيصاتها، وكل صفحة طوتها وهي تفكر، كانت لبنة في هذا البناء.
في أحد الأيام، سألت الوالدة أميرة: “لماذا كل هذا الجهد؟ هل ستغير الكتب العالم؟” ابتسمت أميرة، وقالت: “ربما لا يغير العالم اليوم، لكن ابني نفسًا لتكون جزءًا من التغيير الذي يحتاجه.
لقد أدركت أميرة أن القيادة ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي فعل مستمر، كل فكرة تستوعبها، كل كتاب تُلخصه، هو جزء من رحلتها لتصبح امرأة قادرة على صنع الفرق.
وفي ختام هذه الحكاية التي تُظهر كيف يمكن للبيوت أن تكون مصانع للأمل، نتذكر كلمات العقاد حين قال: “البيت ليس حجارة وسقفًا، بل هو قلب ينبض، وعقل يفكر، وروح تسعى.”
أميرة وأسرتها ليست مجرد قصة تُحكى، بل دعوة لإعادة التفكير في أدوارنا كآباء وأمهات، لأنها تُثبت أن القيادة تبدأ من البيت، حيث تُغرس القيم، وتُصنع الأحلام.