بحوث ودراسات

دراسات نقدية في القراءات الحداثوية للنص الديني


د/ محمد القطاونة
ما يميز الدراسات الدينية في السياق المعرفي الإسلامي؛ هو تنوع مصادر ومرجعيات قراءة وتأويل قضاياها، من فقهية وكلامية وتاريخية وفلسفية…وهذه المرجعيات إذا تختلف في مناهجها التفسيرية والتأويلية للقضايا الدينية، وفي مقاصدها وآفاقها المعرفية، فإنها تشترك جميعا في انطلاقها من النص الديني (القرآن والسنة). وهي إذ تنطلق من النص، فإنها تستهدف الوقوف على حقيقة المعنى الذي يستبطنه، تأويلا أو تفسيرا، بصدد قضية أو واقعة ما للحكم عليها. ومن ثم تحويل المعنى المدرك إلى مفهوم إجرائي أو آلية منهجية لبلورة رؤية نظرية أو تأسيس موقف عملي من مشكلة أو وضعية ما تمس حياة الإنسان ونظامه وحركته في الوجود وعلاقته بالله والكون والانسان.
وقد تعددت تلك الاتجاهات المعرفية المنضبط منها والشاذ الذي لا يستند لقواعد معرفية عميقه تؤهله للوقوف على النص واستنباطه ضمن منهجية الفهم التي بينها الوحي نفسه، فكل تجاوز عن المنهجية هو تجاوز وحياد عن الفهم الصحيح للنص، فالوحي محفوظ معرفة ومنهجاً، فلولا المنهج لضاع مطلق الفهم. ويعتبر المنهج العرفاني أحد تلك الاتجاهات وخاصة تلك اللامنضبطة في فهم النص واستنطاقه وتوظيفه على ارض الواقع، بل أن تلك المناهج، ومنها العرفاني لسعتها وقدرة استيعابها اللامحدود للفهوم والتكهنات اتخذت ذريعة من تلك الاتجاهات لتجاوز حدود الفهم الصحيح الى المنحرف والشاذ احياننا، يقول نصر أبو زيد ” بالإضافة إلى معاداته للقراءات المؤدلجة المكرسة لخطابات العنف الفكري تلك القراءات الـتي حولت النص إلى بوق لا يسمع منه سوى أصوات الموجهين، وليس صوت النص، فلحقه غياب كلي لكينونته، لأنه تم تناوله من منظور مؤدلج، همه الوحيد التكلم باسم النص، و ليس الـتكلم لأجل النص. و تبرز على خلاف ذلك وظيفة التأويل التي تسعى إلى فهم الواقع فلا فكر خـارج الواقع المتضمن لجميع أشكال التعارض والتباين، إذ لا ينبغي حصر دراسة الـتراث على الماضي، واجترار أفكار أمجاده، فالعلاقة بين الماضي والحاضر علاقة تواصل وجدل تستوجب قراءة الماضي لفهمه وتجاوزه لا لتقديس فلا شك إذن كما يرى –حامد أبو بزيد- أن التأويل وهو الوجه الآخر للنص يمثل آلية هامة من آليات الثقافة و الحضارة في إنتاج المعرفة وتقودنا قضية التأويل إلى دراسة مفاهيم و مقولات القدامى عن اللغة بجوانبها المختلفة خاصة من الزاوية الفلسفية، والكشف عن الأسس الأنطولوجية بالمعنى الوجودي، والمعرفية التي شكلت هذا المفهوم كما يمكنه بلورة و إنتاج الكثير من المفاهيم النقدية والبلاغية في التراث ، إننا مطالبون أكثر من وقت مضى باستثمار هذا الفضاء الكثيف، والذي يريد أن يعبر عن نفسه أنه نص، عالم يريد أن ينفجر. وهنا ينفتح أبو زيد للدعوة للتأويل العرفاني وغيره من أنواع التأويل اللامحدود زماننا ومكاننا بـصورة جلية على النص لدى أبوزيد، فالأمر عنده تجاوز سياق النص وضوابطه الذي يسميه بالخطابات المؤدلجة التي تقرأ النص من خلال تلك القيود كما يسمها . ونحن هنا في هذه الدراسة لا نحاول اغلاق مفاهيم النص وتحديده بسياقه بقدر ما نحن مهتمين بالتوازن الذي يحفظ فهم النص وقدسيته ويحفظ المنهجية الإسلامية، والتراث الرصين الذي حفظ هذه الشريعة على امتداد توسعها ونجاحها، اذ يغدو النص الديني ايضا عند أركون ممارسة خطابية Pratique Discursive، خاضعة لآليات التأويل القائمة على التفكيك Déconstruction، ممارسة إستلهمها أركون من فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة الأروبية ولم يجد أي حرج في التعامل مع هذه الآلية. بل يصر على إعمالها ويدعونا لأجل فهم النص الديني من خلالها لأنها الضامن الوحيد للفهم الموضوعي المنفلت من قبضة الإسلاميات الكلاسيكية الإستشراقية Orientalisme التي تحاول حرمان العقل الإسلامي من قراءة النص القرآني -كما يدعي- وهو يشحذ مناهجه من العلوم الإنسانية الغربية المنبع كما يرى، والغريب هنا ان يجتمع العقلي واللاعقلي عند أصحاب هذه الدعوات، فهذه المدارس تحارب التراث في فهم النص وتستحضر تراث آخر لفهم النص القرآني.
إلا أن ما يلفت الانتباه ايضا، ويستوقف التفكير عند هذه المناهج المنحرفة بالرغم مما تدعيه من حل لمشكلات الواقع الذي نعيشه إلا انها لم تقف على حل الإشكاليات النظرية، ومواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية والحضارية، انطلاقا من مرجعيات الامة الاصيلة والينابيع الصافية؛ فوجود مرجعيات منهجية جديدة لا يعني بالضرورة قدرتها على حل الإشكاليات بين النص والواقع، بل اثبتت مع مرور الزمن فشلها الذريع فيما تدعيه بل إحداث قطائع ابستيمولوجية بين الوحي والواقع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى