درة الخياري تكتب: في لقائنا الأخير…
اقصوصة درة الخياري
قبل هذه اللحظة بواحدٍ و عشرين ربيعاً، و في ليلةٍ من ليالي الشتاء الباردة، اجتمع بنا أبي حول مدفأةٍ تحتضن أخشابها مُنتجةً ناراً تنسينا قرصة البرد و تذكّرنا بلسعتها الحارقة، فنكرر خلف أبي “اللهم أجرنا من نار جهنم” ذلك الدعاء الذي لا أفتأ أردده حتى الآن بعد أن اعتاده لساني و اطمأن به قلبي.
جلسنا في دائرةٍ كبيرة ملتصقين ببعضنا، متدثرين بأغطيتنا و بين كفوفنا كؤوسُ الشايِ و فناجينُ القهوةِ، و كلنا آذان صاغية و قلوب خاشعة نستمع لقراءة “لجين” الحفيدة الأكبر لأبي و عمرها عشرون عاماً، قرأت “لجين” آيات من سورة النور و ما إن أنهت قراءتها حتى ناداها أبي فهرعت تلبّي نداء جدّها، فقبّل رأسها ودسّ يده في جيبه ليخرج ورقةً نقديّة طُبِعَ عليها الرقم(200) و خبأها بين صفحات مصحفها مردداً”بارك الله فيكِ لجيننا الحبيبة”…
أبي الذي بلغ يومها أربعاً و ستين عاماً، وقد احتلَ الشيب رأسه بالكامل فما زاده إلاّ وقاراً و حكمة، و بالطبع أربعٌ و ستون عاماً وقتٌ كافٍ ليبدأ ظهرُ حبيبي بالتقوّس إعلاناً من الجسد استسلامه لعلامات الدهر، و رغم الاعوجاج البسيط في ظهره الذي اضطره للاتكاء على عصاته، إلا أن روحه لم تعوجّ يوماً عن الحق، و لم تحد عن طريق الخير مرة، وقف أبي صامداً أمام رياح الدنيا العاتية حتى ذلك اليوم…
بدأ حديثه بحمد الله و الصلاة على رسوله ثم قال:
” جمعتكم اليوم إخواني و أبناء إخواني و أبنائي و أحفادي؛ لأوصيكم وصيةً كنت دوماً أذكّركم و نفسي بها، و لكنني اليوم وددت إخباركم بها جميعاً لتشهدوا لي أمام الله و هو خير شاهد، و إني لأشعر أن ما بقي لي في رصيد أيامي ليس بالكثير، أجلس الآن أمامكم و أنتم إثنان و ثلاثون قطعةً من قلبي، و أحسب أنني مسؤول عنكم، و كل راعٍ مسؤول عن رعيّته، و ربما سأُسأل عنكم، لذا أمضيتُ عمري أعلّمكم و أرشدكم علَّ ذلك ينجيني و ينجيكم و يجعل ختامنا الجنة..
أوصيكم ببعضكم خيراً.. إن الزمان لم يترك الكثير من الخير في قلوب البشر، فحافظوا على حبكم لبعضكم و تدفّؤوا في أيادي بعضكم، و ليجعل كل منكم الآخرَ نصبَ عينيه و من أوائل اهتماماته، أنتم خيرٌ لبعضكم.. أنتم أمانُ بعضكم.. فليرحم كبارُكم صغارَكم، و ليحنو كبارُكم على صغارِكم، و لْتَذكروا موتاكم و موتى المسلمين بالدعاء و الصدقة، و تذكروا بعضكم بالود و المحبة و الصلة، صلوا بعضكم ليصلكم الله يا أحباب قلبي، لا تقطعوا حبل الود بين أرحامكم فيقطعكم الله..
و إن كان هذا آخر لقائي بكم و إن هذا ما يشعر به فؤادي.. فلتدعوا لي بالرحمة و المغفرة و لتذكروا كلامي و تطبقوه خير تطبيق، و ذكّروا به غيرَكم لعلّه ينفعنا و ينفعهم “
و بعد ليلتين من هذه الجلسة.. مات أبي بعد أن ختم صلاة الوتر في ليلةٍ ساكنةٍ اكتمل البدر فيها و تعالت أصوات الرياح و كأنها تبكي معنا فقْدَ حبيبنا و رباطَ عائلتنا الكبيرة..
مات أبي منذ واحدٍ و عشرين عاماً و تركَنا ستّ أُسَرٍ من نفس العائلة، نسكن في عِمارةٍ كبيرةٍ تسعُ كلَّ أسرةٍ في شقة من شققها الفارهة.. أسرة أبي التي صارت تتكون مني أنا فقط بعد رحيل أبي، و خمسة أعمامٍ لي بزوجاتهم و أبنائهم.. و بعد رحيل أبي و رغم كل ما وصّانا به من صلة الرحم و التدفّؤ ببعضنا و الود و الحب، تفكّكت هذه العائلة يوماً بعد يوم.. فمنّا من انتهى أجله و رحل بسلام، و غيره تزوّج و قرّر الانفصال بحياته، و غيره من انتفض قلبُه راقصاً بمنحة للسفر خارج البلاد فرحل ضارباً بكل شيء عرض الحائط، و غيره من سار مع القطيع و فضّل الابتعاد..
و اليوم و بعدَ أن كنت أعيش بين اثنين و ثلاثين قلباً، أصبحت وحدي.. لا أملك من الماضي سوى حطام الذكريات و رسائل أبي التي لا تفارق قلبي، أما عائلتي الكريمة فلا أذكر متى كانت آخر مرة حاول أحدهم أن يعرف شيئاً عنّي، و لكن لا بأس.. فليست هذه المرة الأولى التي أشعر فيها بالوحدة..
اتخذت الوحدةُ قلبي سكناً لها حتى أصبحت جزءاً مني و أصبحب جزءاً منها.. أُصِبتُ بالوحدة منذ أول ساعةٍ بعد فقدِ أبي.. ولا شفاء لي منها إلاّ لقاءَه.
درة الخياري