

عبد المحسن الجارالله الخرافي:
في ظل الرضا المطلق بقضاء الله وقدره، وهو الحكيم العليم، ليس لنا حتى أن نهمس في أنفسنا: لماذا فعل الله بنا كذا ولِمَ لم يفعل كذا؟! فإن في هذا تخطيا لحدودنا البشرية وتجاوزا في حقه سبحانه، وجهلا بعظمته وبأننا لا نستطيع أن نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء.
وحين نتساءل عن الحكمة الإلهية من إصابة الناس بالأمراض، فنحن نقر بداية أن خالق هذا الكون رحيم حكيم، إذ لو لم يكن كذلك لما كنا قد تساءلنا أصلاً عن سبب وجود ألم أو شر في هذا الكون، باعتبار أن هذه لو كانت هي القاعدة لما انتهبنا ولا التفتنا إليها، إنما هي استثناء وعرض يصيب كل الناس بعض الوقت في حياتهم الدنيوية لحكم عديدة تحدث عنها العلماء والحكماء عبر الأزمان.
من هذه الحكم، التي استقرأها العلماء، أن المرض، وإن كان شرًا من جانب، فهو خير في جوانب أخرى، إذ إن الله سبحانه –كما يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله- «لا يخلق شرًا محضا من كل وجه، بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة وإن كان في بعضه شر جزئي إضافي. وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزه عنه وليس إليه» (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص169).
ومن حكمة إصابة العبد بالمرض أن يتذلل إلى ربه، ويتوب ويؤوب ويعرف مقدار غفلته وظلمه لنفسه، وأنه لا يحق له أن يستكبر على أحد أو أن يظن في نفسه القوة التي لا تقهر، فهو عبد ضعيف في إمكان «فيروس»، لا يُرى بالعين المجردة، أن يقعده سنوات، ناهيك عن التسبب في مغادرته إلى باطن الأرض بعد أن كان على ظهرها يمشي مختالا فخورا.
إن من شأن المرض إذا لم ينه حياة العبد أن يرده قويا معافى، وقد عرف نعمة ربه عليه، وكيف أنه لا يحصيها، فيراجع نفسه، ويتواضع لله ثم للناس، ويكثر من عمل الخير، ويحرص قدر وسعه على صحته وصحتهم، كما يشعر بالمرضى خاصة بالفقراء منهم، فيتصدق عليهم من ماله وعافيته، والضربة التي لا تقصم ظهر الإنسان تقويه.
والمرض –كما ورد في الأحاديث الصحيحة العديدة- يطهر الإنسان من الذنوب والخطايا، ولذلك يحسن أن يقول له عواده: طهور بإذن الله، ذلك أن معظم ما يصيبنا من أمراض بل ومصائب هو من كسب أيدينا، مصداقا لقوله تعالى: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ» (سورة الشورى: 30)، وقد بشر الله سبحانه عباده الذين ابتلاهم بأي نوع من أنواع المرض على لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه» (متفق عليه، واللفظ للبخاري).
يا الله.. ما أكرمك يارب، حتى على الشوكة تتنعم على عبادك بتكفير ذنوبهم؟!
ومن رحمته سبحانه أن يصيبنا بالمرض كي نتضرع إليه، ونجأر إليه بالدعاء والابتهال عسى أن يشفينا أو يشفي من نحب، وهذه الحكمة تأتي عبر إصابتنا لا بالسيئات (المصائب) وحدها بل بالحسنات (النعم) كذلك؛ تأمل في قول الحق: «وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (سورة الأعراف: 168).
كما أن من حكمته سبحانه أن يجعل إصابة البعض بالمرض عبرة وموعظة لأنفسنا وللآخرين، ليتعرفوا على قيمة الصحة، وكيف أنهم في نعيم، وليعلموا أن هذا النعيم لا يتسم بالديمومة، فهو نعيم مؤقت لا يدوم، ولو دام لكنا آلهة لا يعترينا نقص ولا قصور، لكننا بشر الأصل فينا النقص والزوال.
هذه بعض الإشارات العاجلة الى الحكمة من المرض لا يفقهها وينتفع بها إلا من يصبر ويشكر، ويدرك رحمة الله سبحانه به بأنه إن أصابه ببلاء فإنه لا يتطلب منه سوى الصبر الجميل عليه من دون شكوى للناس أو جزع أو سخط على قدره المكتوب منذ الأزل، وعندئذ فقط عليه أن يستبشر بأن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيسأل المولى عز وجل أن يسكنه معهم في عليين بفضله ورحمته.