

جمال سلطان:
أعلنت صحيفة الشروق أن الرئيس عبد الفتاح السيسي طلب منها أن تعقد مؤتمرا وطنيا للحوار بين الأحزاب من أجل تحقيق التوافق الوطني وسيكون هذا المؤتمر تحت رعايته، وكان السيسي قبل أسبوعين قد طلب من صحيفة الأهرام أن تعقد مؤتمرا سياسيا آخر وأن يكون تحت رعايته أيضا، كما طلب من صحيفة الأخبار أن تقعد مؤتمرا دوليا عن الاقتصاد ويكون أيضا تحت رعايته.
هذا الذي يحدث لا يمكن تصور حدوثه في أي دولة تعرف ألف باء المؤسسية، أو الحراك السياسي أو دور مؤسسات الحكم فيها، فالصحافة لها دورها المعروف في كل مكان وزمان، ولا يمكن أن تكون بديلا عن مؤسسات الدولة الرسمية، وكل تلك المؤتمرات التي طالب بها السيسي ووجه الصحف القومية لعقدها “تحت رعايته” هي مسؤولية مؤسسة الرئاسة، وكان من المفترض أن تقعدها مؤسسة الرئاسة نفسها، فالحوار الوطني هو صميم عمل مؤسسة الرئاسة وليس من أولويات عمل الصحف الحزبية أو الخاصة أو الحكومية، وخارطة الطريق التي أعلنها السيسي نفسه، تكلف الدولة ومؤسساتها بإدارة الحوار الوطني والعمل على تحقيق مصالحة وطنية، فمكان الحوار الوطني بين الأحزاب والعمل على تحقيق التوافق الوطني مكانه قصر الاتحادية وليس مقر صحيفة الشروق، دون أن يعني ذلك انتقاصنا من قيمة ومكانة صحيفة زميلة لها وللعاملين فيها كل الاحترام، ولكن المسألة تتعلق بظاهرة انسحاب الدولة وتعمد صناعة فراغ سياسي غير مفهوم. المؤسف أن نعترف بأن الرئيس السيسي لا يقدم ـ وربما لا يملك ـ أي رؤية سياسية على الإطلاق لحاضر مصر أو مستقبلها، وجميع خطب السيسي وخاصة التي يتوجه بها للمجتمع الدولي كلها تتكلم عن أفكار اقتصادية وخطط تنموية غامضة وبخطوط عريضة لا تعرف لها ملامح ولا يمكن أن تضع يدك على شيء عملي فيها، والمقالات التي نشرها السيسي في الصحافة الأمريكية باسمه كلها معنية بالاقتصاد والمشروعات والبنية الأساسية وما شابه ذلك، لا يوجد نهائيا أي إشارة فيها إلى رؤية سياسية أو تصور لما ينبغي أن تكون عليه الحياة السياسية في مصر وضمانات الحريات العامة واستقلال العدالة، وفي مصر الداخل لا يمكنك أن تعثر على أي إشارة لحضور “سياسي” لمؤسسة الرئاسة، وهو دور من المفترض أنه متعاظم جدا في ظروفنا الحالية، لأنه لا يوجد برلمان وطني بإمكانه أن يعوض ذلك الفراغ، وبالتالي، المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تفعل الحياة السياسية وتنشطها وتدفع بالجهود نحو التوافق الوطني هي مؤسسة الرئاسة، ولكنها غائبة تماما عن المشهد، بل إن رئيس الجمهورية حتى الآن، وبعد مرور قرابة خمسة أشهر لا يملك فريقا رئاسيا سياسيا ولم يهتم بتشكيله، ولا نعرف حوله حاليا سوى قيادات أمنية ومخابراتية. هل هذا الفراغ والتجريف للحياة السياسية عن عمد وتخطيط، أم أنه ضعف قدرة وغياب الرؤية والقلق من الإقدام على خطوات مثل هذه يمكن أن تكون لها توابعها والتزاماتها، بعد مرور خمسة أشهر على حكم السيسي لم تأخذ منه مصر سوى “الكلام الحلو”، عن احترام ثورة يناير و”ثورة” يونيو، وأن المواطن المصري في عينه وكرامته فوق كل شيء وأنه لن يهدأ له بال حتى تكون مصر في أفضل حال، لكن الواقع الفعلي يعطيك عكس ذلك تماما، فلم يكن المصري مهانا في بلده مثلما هو الآن، ولم تنتهك آدميته وكرامته مثلما تنتهك الآن ولم يكن دمه رخيصا مثلما هو الآن، ولم تكن حوادث أو “جرائم” الموت على الأسفلت أو في المدارس أو في الجامعات أو في السجون أو في أقسام الشرطة مثلما هي الآن ضخامة وتواترا وقسوة ووحشية، حتى بدت كبرامج يومية منتظمة، وبدون أي محاسبة للقتلة والمستهترين والمتجاوزين للقانون ولأبجديات حقوق الإنسان، فدماء الناس وأعمارهم وكرامتهم تضيع بسهولة ويتم تسوية الأمر بكلمة “حلوة” من الوزير أو المسؤول أو بالطريقة المعتادة التي نعرفها جميعا تحت الشعار التاريخي “الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا”. أيا كان مبعث هذا التجريف للحياة السياسية والفراغ الشديد فيها، فالمسؤولية تبقى مباشرة على الشخص الذي يدير المؤسسة الوحيدة صاحبة القرار “دستوريا”، كما أن هذا الفراغ يتيح الفرصة لتغول الخيارات الأمنية لملأه، ويجعل من مصر ـ محليا وإقليميا ودوليا ـ دولة بوليسية بامتياز، ويجعل السيسي في صدام متتالي ومتصاعد مع جميع فعاليات المجتمع، حتى هؤلاء الذين وضعوا آمالهم كلها فيه وما زالوا يدعمونه.