

محمود صقر:
جبران خليل جبران أراد أن يوصل معنى من خلال حوار فلسفي خيالي بين حمارين: الحفيد والجد.
حيث مر كلاهما فوق جسر أنطاكيا، فوجدا حجراً مكتوباً عليه: “هذا ما بناه الملك الروماني”.
فدار حوار بين الحمارين، عرف فيه الحمار الحفيد أن الذي نقل أحجار الجسر هم اجداده الحمير، فوجه سؤاله للحمار الجد: لماذا لم يكتبوا: هذا ما بناه حمير أنطاكيا؟!.
معنى فلسفي عميق يستحق الوقوف عنده.
وإيضاحاً لهذا المعنى نقول: إنه ليس من حق حمير أنطاكيا أن تُكتب أسماؤهم في لوحة شرف الجسر.
لأن مسلوب الإرادة يحمل الأحجار على ظهره سواء برغبته أو رغماً عنه، وفق أهداف وضعها غيره، مسخراً إياه لتنفيذها، وليس وفق هدف يضعه هو لنفسه، أو يتوافق فيه مع جماعة من البشر يحققون به أهدافاً جماعية مشتركة، أو يتوافق مع بني وطنه خلف قيادة رشيدة تحترم حقوقهم لتحقيق أهداف وطنية يتوافقون عليها.
فالحيوان يسير وفق هدف صاحبه، والعبد يسير وفق هدف سيده، وكل مسلوب الإرادة فاقد الوعي يسير وفق أهداف وضعها غيره رغبة في تسخيره.
فإذا كان الجمل على ضخامته وقوته، يستطيع طفل صغير أن يروضه ويوجهه، فهذا طبيعي رغم فارق الحجم والقوة لأن الطفل هنا هو صاحب الإرادة والهدف، والجمل مجرد أداة سخرة.
لذلك فلا تعجب حين تعلم أن بريطانيا احتلت مصر والهند والعراق وغيرهم في وقت واحد برغم أن تعداد الشعب الانجليزي نقطة في بحر هذه الشعوب المحتلة، ولكنها نفس علاقة الطفل والجمل، هذا ذو إرادة وذاك مسلوب الإرادة، هذا ذو وعي وهدف، وذاك فاقد الوعي يسير لتنفيذ أهداف من يسوقه.
ولذلك ليس للشعوب المحتلة حق في أن توضع في لوحة شرف تأسيس امبراطورية بريطانيا العظمى لأنهم فقط ينقلون أحجاراً.
حتى أبناء المستعمرات الذين خدموا السيد البريطاني بجدِ وإخلاص، ومنهم من قاتل في صفوف البريطانيين ضد شعبه، ومنهم قضاة حكموا بالإعدام على الثوار من شعبهم، ومنهم ساسة ورجال أعمال طوعوا البلاد لخدمة المستعمر، كل هؤلاء ميزتهم فقط عن فاقدي الوعي من مواطنيهم أنهم حمير المقدمة وغيرهم ممن رضي بالاحتلال حمير المؤخرة.
وفي المقابل تجد مدينة بمساحتها وعدد سكانها تعادل حياً من أحياء القاهرة، تتحدى الاحتلال رغم المفارقة الهائلة في الامكانات، بل وتتحدى عالماً مات ضميره، وأخاً تخلى عن قضيته، وتمتلك إرادتها، وتضع أهدافها، وتصنع سلاحها، وتدعم بظهيرها الشعبي طليعتها المقاومة.
الخلاصة: أن أي إنسان أو شعب يسير في الحياة فاقد الوعي، مغمض العينين، مسلوب الإرادة، فسيكون مصيره مصير حمير أنطاكيا، وظيفتهم فقط نقل أحجار لبناء صروح غيرهم.
وحالة حمار أنطاكية لا ترتبط بكثرة عدد أو ثروات (بريطانيا نموذجاً)، ولا ترتبط بقوة ولا ضعف مادي (غزة نموذجاً)
ولكنها ترتبط بامتلاك الإرادة. ولا إرادة بغير: دافع يحفزه إيمان، وهدف يحميه وعي، وعمل يتقدمه تضحية.