
البحث عن سبب يفسر ظواهر الأشياء التي تدور حولنا ، هو نشاط عقلي يلزمه استعداد وتدريب وتأهيل .
هذا النشاط العقلي كان بداية النقلة النوعية لمجتمعات تحولت من الجهالة والخرافة إلى العلم والريادة .
حدث هذا مع العرب حين نقلهم الإسلام عبر ما لا يُحصى من آيات القرآن التي تربط الأسباب بالمسببات ليرسخ في المجتمع الجديد أول مبادئ التفكير العلمي .
وهي ذات النقلة التي أحدثها علماء النهضة الأوربية ، لينقلوا أوربا من عصر الظلمات المؤمن بالخرافة إلى العلم التجريبي القائم على الملاحظة والبحث عن أسباب الظواهر .
هذا النشاط العقلي ، أو هذا النمط من التفكير العلمي لا يقتصر على الظواهر الكونية بل تمتد إلى الظواهر الإنسانية التي تشكل الظواهر الاجتماعية .
ويظل هذا النشاط العقلي على المستوى الإنساني هو المرحلة الفارقة بين الطفولة المبكرة التي تكتفي بالنظر إلى ظواهر الأشياء وبين بداية النشاط العقلي حيث يبدأ الطفل في طرح سؤال : لماذا ؟ ….
إذا انتقلنا من هذه المقدمة إلى النظر لواقع مجتمعاتنا ونظرتها إلى الظواهر الاجتماعية المُزلزِلة التي ترُجُّ مجتمعاتنا رجاً ، فسنجد تفكيراًطفولياً يقف عند ظواهر الأشياء ، ويبكي على آثارها ، دون أن يكلف نفسه عناء النشاط العقلي بطرح أسئلة عن أسباب تلك الظواهر أو المشكلات .
وبالتالي نحن أمام أمراض اجتماعية لم نبدأ بعد في تشخيصها ، فكيف نطمع في علاجها ؟!!
بل إنني أجزم أن هناك خططاً محكمة لتظل شعوبنا في مرحلة الطفولة المبكرة .
وهذه الخطة المحكمة لمحاصرة عقول الشعوب تعتمد على أساليب معروفة ومجربة وتقوم في الأساس على قواعد ثلاث : التأكيد –التكرار – العدوى .
التأكيد بإطلاق عبارات رنانة تخلو من أي برهان أو حتى تعريف لمفرداتها .
ثم يأتي دور التكرار الممنهج عبر وسائل الإعلام لتترسخ تلك العبارات في النفوس لدرجة لا تقبل البحث عن برهان أو دليل
وبعد التأكيد والتكرار يأتي دور الآلية الشعبية الجماهيرية الجبارة وهي ” العدوى ” ، لتنتقل تلك العبارات كالجَرَبْ من المرضي إلى الأصحاء . وقد كانت تلك العدوى تنتقل سابقاً فقط من خلال التجمعات الجماهيرية في الشوارع والمصانع والمقاهي …. ، ولكن أجهزة الاتصال الحديثة وخاصة ” التلفاز ” نقلت فلسفة التجمع الجماهيري إلى داخل منزلك ولو كنت وحدك .
هذه الجريمة في حق الشعوب لا تقوم بها فقط الذئاب العاوية في أجهزة الإعلام ولكن بإمكانك ملاحظتها في تصفح مقالات الرأي لمن يدعون أنهم أصحاب رأي وفكر وتنوير وثقافة ، وستجد نمط تفكيرهم في تناول ظواهر مجتمعنا تتماشى تماماً مع الطفولة العقلية المفروضة على شعوبنا – هذا إن أحسنا بهم الظن ولم نفرض أنهم أداة لتنفيذ الخطة –
نعود ونؤكد أن الإنسان الذي يقف عند حدود الظواهر دون أن يمارس أي نشاط عقلي في البحث عن أسبابها يفقد أهم مقوماته كإنسان عاقل مفكر مسئول .
والشعوب التي تقع في ذاك الشَرَكْ ، هي شعوب ما زالت في مرحلة الطفولة المبكرة ، أي أنها لم تبلغ سن الرشد بعد ، وعليه فإن السلطة الحاكمة تتعامل معها تعامل الوَلِّي مع القاصر .
فإن كان الولي تقياً حفظ مال القاصر ، وأما إن كان الولي “يأكل مال النبي” فقل على أموال القاصر السلام .