آراءمحلي

عباس :الإنتروقراطية Interocracy

د. حسن عبدالله عباس :د حسن عبدالله عباس

هل تعيش البشرية أفضل أيامها؟ هذا السؤال نابع من نقطة أساسية، وهي أن الإنسانية اليوم هي آخر محطة في التاريخ، وبالتالي يُفترض أنها تعيش أزهى وأرقى وأعلى صورها، فهل صحيح؟ يعيش المجتمع البشري اليوم متكئاً على مخزون علمي وثقافي وتراثي ضخم جداً، والسبب أننا الوحيدون الذين وصلنا لعام 2015، وكل من سبقنا مات قبلنا وفاته ما جاء من بعده، أليس هذا صحيحاً؟ مع صحة هذا الكلام، لكن لا يبدو ان الانسانية نضجت بما فيه الكفاية، بل لو سألتني عن رأي لقلت إن البشرية تعيش اخلاقيا في تراجع وتدهور مهول شبيه بجاهلية العرب. جميع أنواع أنظمة الحُكم السياسي يمكن انتقادها بما فيها النظام الشائع في العالم واقصد بذلك الديموقراطي، وابرز من نقده كما تعلمون هو أفلاطون. وبما اننا نعيش اليوم عصر الانترنت، فالنظام السائد هو الإنتروقراطية Interocracy كونه نظاماً جديداً يحكم العالم بفضل التكنولوجيا خصوصا الانترنت. من ابرز ملامح هذا المجتمع الجديد المحكوم بالفكر التكنولوجي هو ادارته وسلطته السحرية العجيبة على الفكر البشري. فمن يراجع تاريخ الدول الاستعمارية يجدها لم تتمكن من استعمار فكر وثقافة مستعمراتها، برغم قدرتهم على استعمار الارض والسماء والماء واستعباد الناس. الشيء الوحيد الذي عجزت عنه هذه الدول هو إرغام المستعمرات للطاعة الفكرية، باستثناء القليل كاليابان وألمانيا والجزائر بحيث تغلب المعتدي على جزء من ثقافاتهم، اما غير ذلك فصعب جدا ان تتحول الامم ثقافيا بهذه السهولة. اما اليوم، فثورة التكنولوجيا استطاعت ان تصل الى مسافة عميقة في الثقافات المتنوعة وتحول الناس الى أشباه بعض في جوانب كثيرة.
لهذا تبدل الكثير من المفاهيم خلال العشرين سنة الماضية. ابرز تحول هو انصياع الناس الى النظام المركزي الاتوقراطي. اعلم ان الموجة السائرة في العالم هي الديموقراطية، لكنها اتوقراطية بالفعل لأن مصادر المعرفة اصبحت متركزة بيد افراد قليلين. فمصدر معرفة اكثر من 40 في المئة من مجتمع الانترنت والذي يزيد على 3 مليارات انسان هي شركة واحدة اسمها جوجل، والناس اصبحوا اسرى لدى عدد قليل في سوق الهواتف المحمولة. والشيء نفسه يتكرر في وسائل الاعلام، وغالبا يُشار بالبنان لعدد محدود لا يتجاوز اصابع اليد من الأباطرة. القصد ان مجموعة صغيرة هي من يقع بيدها مصير ثقافة المجتمع الانساني برمته.
هذه المركزية جعلت علماء الفكر يعيدون النظر في الديموقراطية، فهل هي حقيقة موجودة؟ اللافت للنظر الاستبدادية الواضحة خلال الخمس سنوات الاخيرة بحيث اصبح موضوع المثليين معيارا وميزانا مهما لقياس مدى «تقدم» ومدنية المجتمع! فأي مجتمع، ولكي يُنظر إليه على انه فعلاً مجتمع انساني متحضر ويحترم «حقوق» الانسان، يجب عليه أن يُعطي لهذه الفئة «حقوقهم» ويوفر لهم الحياة الكريمة والغطاء التشريعي اللازم. فبفضل الاستبدادية الجديدة، اصبح هذا الشكل المقزز من العلاقات هو الميزان «الحضاري» لقياس مدى إنسانية المجتمع وتطوره اخلاقيا! ففي المدة الاخيرة اصبح المثليون همَّاً غريباً لدى النُخب السياسية في الغرب، ويريدون فرضه فكرياً وبالقوة على الناس (تذكر حديث الرسول ص عن علامة هذا الزمن «يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف»). فما الفرق بين اللواط والمثليين ووأد البنات في عصر أبو جهل! أليس كله انحطاطا أخلاقيا؟
الشيء الآخر المثير بالنسبة لهذا النظام الجديد هو التغوُّل الاقتصادي. تقول الاوكسفام إن اقل من 1في المئة يمتلكون ثروة تزيد على 99 في المئة! ما أريده هنا ان فكرة النظام الاقتصادي من اساسه ظالم ولا يعدل في توزيع الثروات. نظام السوق المفتوح ظالم الى درجة بعيدة بحيث يسلب الفرصة من الضعفاء، كما انه لا يعوضهم في ما بعد فيظل البون شاسعا ويزداد بين الفقر والغنى مع مرور الوقت.
فهل ترون ان النظام الحالي حضاري ومتمدن ام جاهلي، غير انساني، واجرامي بحق؟ فهل ستصدقون بعد اليوم عباراته الناعمة كحقوق الناس، والمرأة، والبيئة، واسرائيل!؟ وهل ما زلتم مصدقين برامج الاصلاحات الاقتصادية لهذه المؤسسات الدولية؟ وهل مقتنعون جديا بـ «الحرب على الارهاب»؟ وهل حقا أميركا ديموقراطية؟ فهي تكتنز المال ان تحدثت عن الاقتصاد، لكنها تركض وراء مصالحها القومية ان جاء دور السياسة. ثم ما علاقة جوجل بادارة بوش كما جاء في كتاب اسانج الاخير؟
انا عن نفسي اقول التسويق الاعلامي اشترى من الناس عقولهم وباعهم الخراب لا اكثر بدليل الارقام والاحصائيات التي تعيشها الانسانية اليوم. فنحن يا جماعة في جهنم فكري بسبب الانتروقراطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى