آراءدوليشؤون عربيةصورة و خبر

غزة بعد الهدنة.. سلام الجوع وحصار الحياة.. حين يتحول الطعام إلى سلاح استراتيجي


منذ أن صمتت المدافع في العاشر من أكتوبر الماضي، يعيش الفلسطينيون في غزة على أملٍ بأن الحرب انتهت. لكن الصمت لم يجلب الأمان، بل جلب نوعاً جديداً من المعاناة؛ سلام بلا حياة، وهدنة بلا طعام.

ففي شوارع غزة، لا شيء يُذكّر بالهدنة سوى طوابير الناجين أمام التكايا الخيرية. نساء يحملن أواني الألمنيوم، أطفال ينتظرون وجبتهم، ورجال فقدوا كل شيء عدا القدرة على الصبر. إنها معركة يومية ضد الجوع، لا تُسمع فيها الانفجارات، بل أنين البطون الفارغة.

ورغم إعلان وقف إطلاق النار، ما تزال إسرائيل تمارس سياسة “الخنق الاقتصادي” عبر تقييد دخول المواد الغذائية الأساسية، مقابل السماح بسلع كمالية لا تشبع جائعاً ولا تبني حياة.

بين الحصار والإبادة البطيئة

تصف المقررة الأممية السابقة لحق الإنسان في الغذاء، هلال الفار، الوضع في غزة بأنه “استخدام التجويع كشكل من أشكال الإبادة الجماعية”.

فبعد عامين من القصف والحصار، بات أكثر من 80% من سكان القطاع بلا دخل، وارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، وفق البنك الدولي.

إحصاءات المكتب الإعلامي في غزة تكشف أن عدد الشاحنات الإغاثية اليومية لا يتجاوز 89 من أصل 600 يفترض دخولها.

هذه الأرقام لا تعبّر عن خلل لوجستي، بل عن سياسة ممنهجة تهدف إلى إبقاء القطاع عند حافة الكارثة الإنسانية. فالجوع لم يعد نتيجة الحرب، بل أداة استمرارها. إنه الحصار وقد تحوّل إلى سلاح استراتيجي أكثر فتكاً من الصواريخ.

التكايا.. مطابخ الكرامة في زمن الجوع

في منطقة مواصي خان يونس، يغدو انتظار وجبة من “تكية السعادة” طقساً يومياً. يقول القائم عليها، سعد عابدين: “نطبخ مئات الوجبات يومياً. لا نكفي الجميع، لكننا نحاول أن نحفظ كرامتهم.”

تلك المطابخ الشعبية، التي كانت مبادرات موسمية، تحولت اليوم إلى شبكة إغاثة بديلة، تسد فراغ الدولة والهيئات الإنسانية. إنها اقتصاد الكفاف الذي يعيش عليه مئات الآلاف. وفي كل وجبة تُوزع، يتجسد عناد الحياة في وجه الموت البطيء.

من القصف إلى الغلاء.. حرب الأسعار

تراجعت أسعار بعض السلع بعد الهدنة، لكنها بقيت بعيدة عن متناول الناس. فكيس الدقيق الذي كان يُباع بـ25 شيكلاً قبل الحرب، وصل إلى 120 شيكلاً اليوم، بعد أن تجاوز 1000 شيكل أثناء الحرب.
أما الطماطم والخيار والموز فتراجعت أسعارها من أرقام فلكية، لكنها لا تزال أغلى بعشرة أضعاف من مستويات ما قبل الحرب.

وراء هذه الأرقام، يكمن واقع اقتصادي جديد: غزة تحولت إلى سوق خاضعة بالكامل للتحكم الإسرائيلي، تُفتح وتُغلق منافذها بحسب الموقف السياسي، وتُدار مواردها بما يضمن استمرار الهشاشة لا نهايتها.

هندسة البقاء.. الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة

تقوم العقيدة الإسرائيلية في التعامل مع غزة اليوم على ما يمكن تسميته بـ “إدارة الحد الأدنى من الحياة”. أي: لا تدمير كامل يؤدي إلى انهيار شامل، ولا إنقاذ كافٍ يعيد الحياة الطبيعية.

بهذه السياسة، تُبقي إسرائيل القطاع في منطقة رمادية بين الموت والحياة، وتستخدم معاناة المدنيين كوسيلة ضغط في أي مفاوضات قادمة. إنه سلام الجوع: شكل جديد من السيطرة عبر الحصار الاقتصادي والنفسي. وتتغاضى القوى الكبرى عن ذلك، طالما بقيت غزة “هادئة”. لكن الهدوء الذي يُشترى بالجوع لا يمكن أن يدوم.

مجتمع على حافة الكفاف

ورغم كل شيء، لا تزال غزة تقاوم بالفكرة والإنسان. الناس هنا لا ينتظرون فقط الطعام، بل إثبات أن الحياة ممكنة رغم كل شيء. ففي كل طابور أمام التكايا، وفي كل محاولة لإعادة فتح مدرسة أو متجر، تكمن إرادة جماعية للبقاء أقوى من الحرب وأطول من الحصار.

هذه الإرادة هي ما يقلق الاحتلال أكثر من أي شيء آخر: أن يظل الجائع حياً بما يكفي ليحلم، وأن تتحول المأساة إلى وعي جماعي لا يُقهر.

إن اتفاق غزة ليس نهاية الحرب بل بدايتها الجديدة ـ حربٌ بلا قنابل، تُخاض عبر السيطرة على الغذاء والدواء والمعابر. ففي قلب الهدنة يتجلى نموذج حديث من الحروب غير التقليدية:
حيث تُستخدم المساعدات كسلاح، والجوع كأداة هندسة سياسية.

في النهاية، لم تعد الأسئلة في غزة عن عدد القتلى أو الهدن، بل عن قدرة الإنسان على الصمود حين يتحول البقاء نفسه إلى شكل من أشكال المقاومة.

“في غزة، لا ينتصر أحد ولا يُهزم أحد. وحدها الكرامة تصمد في طوابير الجوع.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى