قرار محكمة العدل الدولية فى دعوى جنوب إفريقيا رؤية قانونية
أن
الدكتور// السيد مصطفى أبو الخير
خبير أكاديمي في القانون الدولي
أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها غير النهائي فى الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيونى متهمة إياه بإرتكاب جريمة الإبادة الجماعية فى غزة فى عملية طوفان الأقصى التى بدأت فى السابع من أكتوبر لعام 2023م، وجاء قرار المحكمة مسيساً وصيغ بمصطلحات سياسية ليست قانونية كأنه كتب بيد سياسى، وليس أكبر فقهاء القانون الدولى فى العالم من قضاة محكمة العدل الدولية، الألفاظ والمصطلحات التى يجب أن تصدر عن المحكمة أو أى محكمة فى العالم يجب أن تكون حازمة وحاسمة تقوم على الجزم واليقين وليس على الشك والتخمين، لذلك قرار المحكمة هو بيان سياسى بعيد كل البعد عن اللغة القانونية التى يضاغ بها الأحكام والأوامر والقرارات خاصة الصادرة عن محكمة العدل الدولية. وفى هذا المقال سوف نوضح ذلك.
جاء القرار خالياً من الضمانات مفردات مجردة مطاطة منها على إسرائيل أن تلتزم .. أن تضمن .. أن تمنع ..
يبدو أن المحكمة تعرضت لضغوطات أمريكية لتجنب ذكر وقف الحرب. فالقرار يعتبر تفويضاً لهولاء المجرمين بمزيد من القتل والإبادة ضد الشعب الفلسطينى كله وليس فى غزة وحدها، كما أن المحكمة استخدمت كلمة “فوراً” فقط حين تحدثت عن إطلاق (حماس) سراح الرهائن الإسرائيليين، بينما طلبت من إسرائيل وقف الإبادة “خلال شهر”، دون أن تطالبها بشكل صريح وقف الحرب فوراً، ولا طالبت الكيان بتعليق العمليات العسكرية كما ورد فى قرارها ضد روسيا، فالمحكمة – بعد كل ما حدث فى غزة – لا ترى أن إسرائيل أرتكبت جريمة الإبادة الجماعية في غزة، وطالبت الكيان الصهيونى تجنب وقوع ضحايا جدد ووقوع مزيد من التدمير أثناء العمليات العسكرية، يعنى لا قيمة لنحو مائة ألف ما بين شهيد وجريح معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ فى قانون المحكمة.
وقالت محكمة العدل الدولية فى قرارها، إن لديها صلاحية للحكم بإجراءات طارئة في قضية الإبادة الجماعية ضد الكيان، وإنها لن ترفض قضية الإبادة الجماعية ضده، مؤكدة “الفلسطينيون مجموعة تخضع للحماية، بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية”. إذا كان الأمر كذلك، لماذا لم تصدر المحكمة قرارا بتعليق العمليات العسكرية كما فعلت مع قرارها ضد روسيا في 26 فبراير/شباط 2022م؟ فقد طالبت محكمة العدل الدولية روسيا بتعليق جميع الأعمال العسكرية في أوكرانيا، وبممارسة سلطتها المباشرة على كل الوحدات والأفراد والمجموعات العسكرية التابعة لها، أو التي تحت سيطرتها، لضمان تعليق جميع الأعمال العسكرية وأمرت المحكمة موسكو بوقف غزوها لأوكرانيا على الفور، قائلة إنه لا يوجد دليل يدعم تبريرها للحرب والاستمرار فيها.
علماً بأن المحكمة أقرت بحق الفلسطينيين بغزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية فذكرت (وعلى الأقل بعض الحقوق التي تسعى جنوب إفريقيا إلى الحصول عليها منطقية). لماذا لم تبين المحكمة هذه الحقوق مع العلم أنها منطقية، واستخدمت المحكمة مصطلح غير قانونى هنا(منطقية) وكان المفروض أن تستخدم مصطلح شرعية أو قانونية أو تتفق مع القانون الدولى وخاصة اتفاقية منع الابادة الجماعية، لكنها استخدمت مصطلحاً سياسياً. قرار المحكمة طلب من الكيان الصهيوني اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع حدوث أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة، وعلى الرغم من ذلك، فإن المحكمة لم تُصدر أمراً بوقف إطلاق النار. فالمحكمة بعد ان قبلت جميع الحجج والأسانيد المقدمة من جنوب افريقيا، قضت بقبول الطلب ورد جميع الدفوع للكيان الصهيوني لكنها لم تقل إن الكيان الصهيونى ارتكب جريمة الإبادة الجماعية، رغم أن كافة الدلائل والمستندات والأدلة المذكورة فى صحيفة الدعوى تؤكد أن ما قام به الكيان الصهيونى يشكل جريمة إبادة جماعية، كما أن المحكمة أقرت بوجود حالة قانونية تتعلق بجرائم الإبادة الجماعية المزعومة التي ارتكبها كيان الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، ومع ذلك لم تذكر أن الكيان ارتكب جريمة إبادة للفلسطينين فى غزة. المحكمة تلزم حماس بالإفراج الفوري غير المشروط عن الرهائن المحتجزين لديها، علماً بأن المحتجزين لدى حماس أسرى حرب طبقا لاتفاقية جنيف الثالثة وليسوا رهائن طبقاً للاتفاقية الدولية لمناهضة أخذ الرهائن لعام 1979م، والمحكمة خاطبت حماس وهى حركة تحرر وطنى وليست دولة، علماً بأن التداعى أمام المحكمة للدول فقط طبقا للفقرة الأولى من المادة (34) من نظام المحكمة الأساسي والتى نصت على ( للدول وحدها الحق فى أن تكون طرفاً فى الدعاوى التى ترفع للمحكمة.) وأكدت على ذلك الفقرة الأولى من المادة (35) من ذات النظام الأساسي التى نصت على (للدول التى هى أطراف فى هذا النظام الاساسى أن يتقاضوا إلى المحكمة.) لذلك حركة حماس من غير المخاطبين بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كما أن حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية ليسوا أطرافا فى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وطالب القرار بمتابعة القضية ورفع الدعوى، مما يسمح لجنوب أفريقيا بتقديم تقارير حول الإجراءات التي يتخذها الكيان الصهيوني للامتثال لالتزاماته بموجب القانون الدولي. وطالب الكيان الصهيوني تقديم تقارير حول الإجراءات التي اتخذتها بناءً على قرار المحكمة، أى أن الأمر متروك للكيان دون مراقبة. وقد رفض الكيان الصهيونى هذا القرار صراحة، ويمكنه تقديم استئناف أمام المحكمة للطعن فى القرار لتقديم وجهة نظره حول المسائل القانونية المعنية. وقال المحكمة إن الشروط متوفرة لفرض التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب إفريقيا، ومع ذلك لم تقض بتلك التدابير المؤقتة.
بالإضافة إلى ذلك، من الممكن أن يلجأ الكيان الصهيوني، للحوار الدولي والدبلوماسية لشرح وجهة نظره والتأكيد على موقفه، أما بالنسبة للإجراءات الداخلية، فقد يتخذ الكيان الصهيوني إجراءات داخلية، مثل تعديل التشريعات أو اتخاذ قرارات تنفيذية، لتعزيز موقفها والحفاظ على سيادته، فضلاً عن تكثيف الحملة الإعلامية لتوضيح وجهة نظره وكسر النصوص الإعلامية المعادية.ولن يقف كيان الاحتلال الصهيوني مكتوف اليدين فبعد قرار المحكمة قد يتعاون مع الدول والحلفاء الداعمين له للتأثير على الرأي الدولي وتحقيق دعم إضافي، أما إجراءات الرد المتوقعة ستعتمد في نهاية المطاف على تقييم الكيان الصهيوني للوضع وكذلك اعتباراته السياسية والاقتصادية والأمنية، أى أن المحكمة أعطت للكيان الصيهونى حق تطبيق أو عدم تطبيق القرار، وذكرت المحكمة أنه على الكيان الوفاء بتعهداته بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، كذلك عليها أن تتخذ إجراءات لتحسين الوضع الإنساني في القطاع. فضلا عن إمهال الكيان شهرا للرد وتقويم نفسها وجرائم جيشها والعودة بتقرير للمحكمة، مما يتيح للكيان الاستمرار فى العدوان وارتكاب كافة الجرائم الدولية المنصوص عليها بالمادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والمواد 6-7-8-8 مكرر من ذات النظام.
وصرحت المحكمة بأن غزة أصبحت مكانًا للموت واليأس ولا يمكن العيش فيه والفلسطينيون يتعرضون للتهديدات اليومية. وأنها أخذت بالاعتبار تصريحات مسؤولين إسرائيليين بشأن رفع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين، مشيرة إلى تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي في 9 أكتوبر الماضي، بشأن أمره بحصار كامل على غزة وإعلانه إغلاق كل شيء وقطع الكهرباء والماء ومنع الوقود، كل ذلك يشكل جريمة إبادة جماعية، ورغم كل ذلك، لم تحكم بارتكاب الكيان الصهيونى جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينين، علما بأن ما ذكرته المحكمة من حيثيات يؤكد أرتكاب كافة الجرائم الدولية وليست جريمة الابادة فقط.
إن قرار محكمة العدل الدولية لايمكن اعتباره من ناحية قانونية ملزماً أو قابلاً للتنفيذ حتى لو صدر لاحقاً بعد صدور الأحكام النهائية في قضية الإبادة الجماعية ضد غزة. وبناء عليه فإن قرار المحكمة هذا لا علاقة له بالقانون وهو اقرب إلى السياسة منه للقانون الدولي.