
بقلم : مهندس / محمود صقر

الحملة الجارية الآن لمهاجمة تراث الأمة والنيل من نجومها الساطعة في سماء الفقه، هو امتداد لخطة محكمة وضعها المحتل لم تنقطع فصولها على مدار مائتي عام . وهدف المحتل قديماً وحديثاً من هذه السياسية هو استعباد واسترقاق الأمة بوسيلة معنوية مرافقة لوسائله الحربية ، هدفها الهزيمة النفسية للأمة من خلال تحقير تراثها: ديناً وثقافةً وتاريخاً ولغةً وعاداتٍ وتقاليد …. فإذا اقتنع جيل من الأمة أنه حقير ، نظر للمحتل بانبهار وإعجاب ، وتقبل العبودية والذل بكامل الرحب والسعة .!! وكانت هذه خطة الغرب في كل البلاد التي احتلها، واعتمد في تنفيذ خطته على صناعة نخبة من أهل البلاد رباها على عينه وأطلقها لتتولى التشكيك والاحتقار لتراث الأمة. فوجدنا في مصر مادة يدرسها طلبة الجامعة المصرية عام 1925 يقوم بتدريسها طه حسين تحت عنوان (في الشعر الجاهلي) يقول فيها:(للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي ….)!!! يعني الأستاذ يتعامل مع النص القرآني بمنهج الشك الديكارتي الذي تعلمه من أساتذته المستشرقين ، كما لو أن القرآن كتاب في الفلسفة .!! ووجدنا مقالا في جريدة كوكب الشرق في العشرينات يشكك في بلاغة القرآن بعنوان:(العثرات) يقول فيه الكاتب إن قول العرب القتل أنفى للقتل هو أبلغ من قوله تعالى:( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).!! وتعدى الأمر إلي احتقار اللغة العربية والدعوة إلى استبدالها كلاما وكتابة بالعامية. ومن أعجب العجائب في هذا الشأن أن الأستاذ ” أحمد لطفي السيد ” الملقب بـ ” أستاذ الجيل ” والذي كان أحد المناصرين للفكرة ، أصبح رئيساً لمجمع فؤاد الأول للغة العربية .!!! وجدير بالذكر أن الأديب البليغ ” إبراهيم اليازجي ” تم منعه من ترجمة الإنجيل بلغة عربية فصيحة بديلاً عن الترجمة العربية الركيكة المتداولة .!! أما التاريخ فحدث ولا حرج ؛ ففي الوقت الذي كان بعض كتاب الغرب من أمثال جوستاف لوبون وهونيكه ينصفون تاريخ العرب والمسلمين، كان كتابنا يختارون أكثر صفحات تاريخ الأمة قتامة ودموية ليصبغوا به تاريخها كله. وفي الوقت الذي كانت أوروبا تبحث عن نظام سياسي يجمعها كانت تلك النخبة تشوه (الخلافة)النظام السياسي الجامع للأمة. وتستطيع أن ترصد دور الإعلام في تنفيذ الخطة، بازدراء الشيخ المعمم ومعلم اللغة العربية والسخرية من اللغة العربية الفصحى ومن عاداتنا وتقاليدنا، حتى صارت كلمة ” فلاح ” سُبة، وصارت كلمة ” صعيدي” مجلبة للضحك والسخرية .. وصارت الراقصة مناضلة تساعد الثوار ضد الإنجليز، ومنظر الخمور مألوفا وكأنه جزء من الحياة اليومية للأسرة المصرية.!! هذه هي النتيجة المرجوة للخطة.؟ هزيمة نفسية واحتقار للذات وانبطاح كامل على أعتاب الغرب قادته تلك النخبة المصنوعة، فتجد طه حسين في كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الصادر في منتصف الثلاثينيات يقول: : ” تستطيع أن تقول إن رقي الأفراد والجماعات في الحياة المادية مهما تختلف الطبقات عندنا ، إنما هو حظها في الأخذ بأسلوب الحياة المادية الأوربية ” . وبشكل أكثر فجاجة وانبطاحا يقول سلامة موسي: ( المصلح المثمر عندنا هو مقلد لأوروبا لاغِشّٓ في تقليده.)!! ولا نجد أبلغ في الرد على هذا الانبطاح من رد الأستاذ مصطفي صادق الرافعي في مقال له تحت عنوان:( المرأة والميراث): (وما هو الغش في التقليد؟ ؛ هو أن تستعمل رأيك وفكرك فتدع وتأخذ على بينة في الحالين.. ثم يسخر منه ويقول: معنى هذا إذا انقلبت أوروبا شيوعية أو إباحية وجب ألا نغش في التقليد.. وإذا كانت الشمس لا تطلع ستة أشهر في بعض جهات أوروبا وتطلع في مصر كل يوم ، وجب أن يكون المصري أعمى ستة أشهر…)!! نعود ونقول : إن هذا العواء والنباح الذي يملأ الفضاء نيلاً من تراث الأمة وأعلامها ، ما هو إلا امتداد لخطة ” تحقير الذات ” بهدف الهزيمة النفسية للأمة لإبقائها مستعبدة تابعة ذليلة. ولكن من لطف الله على هذه الأمة ، أنه ما من مرة يعلو فيها صوت خطة ” تحقير الذات ” إلا وقابلها صحوة ” تحفيز الذات ” ، أي استنفار شرفاء الأمة للدفاع عن تراثها الممثل لعقيدتها وتاريخها وتقاليدها . وكلمة أخيرة للأغرار الجهلاء الذين ملأوا الفضاء نباحاً وعواءً . وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً آفته من الفهم السقيم .