![](http://hmak.org/main/wp-content/uploads/2017/07/محمد-عبد-العزيز.jpg)
العلم إرث الأنبياء وإكسير تقدم الأمم ونهضة المجتمعات ، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة.
العلم إدراك الأشياء وموجوداتها منذ القدم، ويكفي في شرفه أن الله عز وجل استشهد العلماء على وحدانيته ، وأخبر أنهم هم الذين يخشونه فقال تعالى :
” شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” ، وتخير الله العلماء لذلك لكونهم الأكثر علماً بجلاله ، وبجوهر دينه ، الذين يخشونه سبحانه ويراقبونه ، ويقفون عند حدوده ، كما قال الله عز وجل : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” ، ومعلوم أن كل إنسان يعرف ربه حق المعرفة لابد يخشاه ، ولكن الخشية الكاملة إنما هي لأهل العلم ، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ثم من يليهم من العلماء على مختلف طبقاتهم.
ولا ريب في أن العلم هو معول التقدم وركيزة التنمية ، كما أنه معيار لقياس التخلف المجتمعي ، ولقد سادت أمم سابقة حينما أولت العلم والمتعلمين الأهمية الأولى ، وتخلفت عن ركب الحضارة تلك المجتمعات التي وضعت العلم في ترتيب متأخر من برامجها واهتماماتها ، لاسيما في العقد الأخير .
ولما تأخر ركب العلم تراجع معه الجناح المهم الثاني الذي تحلق بهما المجتمعات ، وهو التربية السليمة وتعنى بها الأسرة ، لاسيما في المراحل الأولى لنشأة الجيل ومن ثم تكون الروافد المتعددة الكثيرة التي تسهم في تربية النشء . ولقد صاحب غياب هاذين الجناحين ( العلم والتربية ” عن مجتمعاتنا أن غيب دور الأسرة في تربية وتعليم أبنائها بالطرق السليمة ، فلم تعتبر بماضي عربي مجيد لم تكن فيه مثلاً صفية بنت عبد المطلب تبالي لولدها الزُّبير إذا سَقط من على ظهرِ الفرس ، ولم يكن يأكل الخوف قلوب العرب وهم يرسلون أولادهم إلى البادية بالشهور والسنين ولم يكن بقاء الولد وحده مع الغنم ليال في وديان مكة يؤلم نفس أبيه ، ولم يكن خروج الشباب اليافع إلى التجارة والصيد وتَسلق الجبال الشاهقة وصيد الأسود أمثال حمزة بن عبدالمطلب، يجعل أمهاتهم تموت رعبًا . لذلك لما جاء الإسلام صادفت قوته الروحية قوة بدنية خرج رجاله بهما أمثال خالد بن الوليد والزبير وسعد والمثني والقعقاع فلم يعودوا إلا بملك كسرى و قيصر .
فما أحوج مجتمعاتنا الآن إلى أمٍ كصفية تُربي ولدًا مثل الزُّبير ، واباً كنور الدين ربى أسداً كصلاح الدين ، فالأمة مقدمة على مرحلة لا يصلح معها صاحب الاسم المذكر والفعل المؤنث ، فمستقبل الشعوب الآن بات بيد أطفالها ، ونأسف أنه من سبل التربية غير الموقرة الان أن نوجه عناية أطفالنا إلى قدوات من عالم الفن والرياضة ، متجاهلين القدوات من العلماء العرب وهم كثير ممن علموا العالم في مختلف الميادين ، مثل ابن النفيس وابن الهيثم وابن بطوطة ويعقوب الكندي والخوارزمي وابن اسحق وابو كامل شجاع ، وغيرهم كثير ليسوا أقل تأثيرا في البشرية من نيوتن وجاليليو وانشنتاين وداروين . إن آلاف المطربين والمطربات لن يشبعوا جائعا ولن يخففوا آهات مريض ولن يبنوا سقفا لمشرد، فأصبح الاهتمام بالأغاني والرياضة أفيوناً جديداً للشعوب وهو بمثابة غزو ناعم ، يستأسد الغرب في كيفية تجرع أطفالنا له . نحن في خطر داهم ليس وليد اليوم بل منذ قرابة مئة عام ، فحين تفرش السجادة الحمراء للمطربين والرياضيين ..ونجعلهم قمما شامخة في المجتمع ، وحين يعتبر فوز مغني في مسابقة ما انتصار وطني ترفع له الرايات وتكتب له التهاني والأماني ، وحين يكسب مطرب أو لاعب في ليلة بمقدار ما يجنيه معلم طوال عمره ، فإننا أمام أمة مطلوب منها أن تبقى راكعة في محراب الجهل والتفاهة والشهوات ، ولا من مخرج سوى الاهتمام بالصغار وتعليمهم طلب العلم ، وحب الاجتهاد والاعتماد على النفس ، فلنشجعهم إن أحسنوا ونعلمهم حب العمل وفنون الحياة ، كفانا لهوا ولعبا ، كفانا بعدا عن العلماء كقدوة لبناتنا وأبنائنا وللأجيال القادمة .
إن عدم الاكتراث بملف التعليم في المجتمعات العربية سبب رئيس للتراجع الذي نشهده على جميع الأصعدة والهوة السحيقة التي لا تفتأ تزداد فيما بين العرب والغرب ، الأمر جد خطير والأرقام كارثية ، فبحسب المصدر العربي وبنظرة فاحصة على أخر أرقام صادرة عنه تتعلق بالتعليم ، نجد بأن عدد الأمِّيين في العالم العربي يلامس 54 مليون أمِّي علما أن عدد سكان الوطن العربي يبلغ نحو 327 مليون نسمة حسب تقرير (UNFPA) . وحسب البيانات أيضاً فإنه وحتى عام 2024 يتوقع أن يكون هناك 49 مليون أمي في العالم العربي. من بينهم حوالي 15,5مليون ذكر و33,5مليون أنثى. يبلغ عدد الأميين الشباب منهم حوالي 6,5 مليون. وحسب المرصد العربي أيضاً فإن حوالي 5,6 مليون طفل عربي ما بين 6-11 سنة لم يلتحقوا اساساً بالمدارس (61,2 % منهم من الإناث) هذا في عام 2015 .
إننا في وضع كارثي يجب الانتباه إليه خاصة بعد خروج تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي ليجلي الحقيقة عن تصنيفاً جديداً لجودة التعليم في العالم شمل 137 دولة ، وقد قوّم التقرير الدول بحسب درجة إجمالية تراوحت بين 1 و 7، انطلاقاً من درس وتحليل 12 معياراً أساسياً: المؤسسات، البنية التحتية، بيئة الاقتصاد الكلي، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، كفاءة أسواق السلع، كفاءة سوق العمل، تطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، تطور الأعمال، الابتكار. وفي حين أن سويسرا حلّت في المرتبة الأولى عالمياً وتصدرت ترتيب مؤشر جودة التعليم مع حصولها على 6.1 درجة، جاءت اليمن في المرتبة الأخيرة مع درجة إجمالية بلغت 2.2. وحلت الأقطار العربية في مراتب متدنية جدا عالميا عدا قطر والامارات التي حلتا في المرتبة السادسة والتاسعة عالمياً بنيلهما 5.7 نقطة، و 5.5 نقطة والبحرين في المرتبة 28، وبفرق ملحوظ، حلّت المملكة العربية السعودية في المركز 54 (4.3 درجة)، والأردن في المرتبة 55 وتونس 78 وسلطنة عمان 87 ، في حين تزيلت اليمن – للأسف – التريب الدولي لجودة التعليم وحلت في المركز 137 ، بينما غابت عن ذلك التصنيف دول عربية لها باع كبير وتاريخ عريق في العلم والثقافة العربية مثل سوريا والعراق وتأخر أيضا للأسف ترتيب مصر رأس خيمة العرب .
*****
وفي الأخير من المؤكد وفق ما سبق أن العالم العربي اليوم يعيش واحدة من أسوأ مراحله الحضارية في ملف التعليم على جميع الأصعدة. وعلى الرغم من محاولات بعض الدول العربية تدارك الأمر ساعية إلى التطوير ، غير أنها لازالت محاولات على استحياء غارقة في المظهرية التي تأتي في سياق تقليد الحضارة الغربية ومعاييرها التنافسية التي ليس بالضرورة أنها تنسجم مع حاجاتنا وبيئاتنا العربية.
والان نحن في حاجة ماسة الى أن نستفق من غفلتنا ، وهنا نرجو من أوفياء المجتمعات العربية من الاختصاصيين وغيرهم القيام بدور رئيسي تحتمه مسؤولية أخلاقية كبيرة ، كل في محرابه نحو السعي إلى بناء مؤسسات مدنية غير حكومية تتعاون مع الحكومات وتستنهض هممها وترعى ملف التعليم ، بشكل ينطلق من هويتنا الإسلامية العربية وتسعى جاهدة إلى رفع مستوى ميدان العلم والمعرفة وتعيد الدور الصحيح للأسرة في التربية السليمة . فبعودة الجناحين العلم والتربية إلى محرابهما يعود إلينا مجدنا الضائع .