آراءدولي

صقر: غربة داخل الوطن

محمود صقر
محمود صقر

محمود صقر:

شعور مؤلم وقاسي خلف نبرة اليأس في قول الإمام “أبو حامد الغزالي“: غَزَلتُ لكم غَزْلاً دقيقاً  فلم أَجِدْ لغزلي نساجاً فكسرتُ مِغْزلي.

وخلف شعور الوحدة في قول “أبو فراس الحمداني“: غريبٌ وأهلي حيث ما كان ناظري   وحيد وحولي من رجالي عصائبُ.

وخلف غربة “المتنبي” في قوله: أنا في أمة تداركها الله   غريب كصالح في ثمود.

إنها الغربة الشعورية التي يشعر فيها الإنسان أنه وحيد غريب وإن كثر حوله الأهل، وإن أقلته أرض وطنه وأظلته سماؤه.

شعور ينفطر له القلب حين تتخيل في ” جاليليو” الذي أمضى عمره في خدمة العلم بين المعامل والكتب، ثم يرى كُتبه تُحرق بأمر الكنيسة والجماهير ملتفة حول النار يصفقون بحماس وحرارة فرحاً بالعلم الذي يُحرق والخير الذي يحرمون أنفسهم منه.

شعور غربة الإنسان المحب للخير والفضيلة، حين يرى هرم القيم مقلوباً في وطنه، فالحظوة والشهرة والأمن في بلاده للمنافقين والمتسلقين، بل للقتلة والمجرمين، ووسام الوطنية منزوع من الشرفاء موضوع على صدور الغواني والراقصات.

قيم مقلوبة تذوب لها النفس حين تعيش شعور “أبوالعلاء المعري” وهو يعبر عنها أبلغ تعبير:

 إذا وَصَفَ الطائيَّ بالبُخْلِ مادِرٌ   وعَيّرَ قُسّاً بالفَهاهةِ باقِلُ

 وقال السُّهى للشمس أنْتِ خَفِيّةٌ    وقال الدّجى يا صُبْحُ لونُكَ حائل

وطاوَلَتِ الأرضُ السّماءَ سَفاهَةً    وفاخَرَتِ الشُّهْبُ الحَصَى والجَنادل

فيا موْتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ     ويا نَفْسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازِل

 نعم هي مأساة أن يكون أكرم من في الوطن ( حاتم الطائي ) معير بالبخل من أبخل الناس ( مادر )، وحين يكون أفصح من في الوطن ( قُسْ بن ساعدة ) معير بأنه لا يحسن الكلام من أهبل من في الوطن ( باقل ).

صاحب الحس المرهف حين يرى هذا الهرم القيمي المقلوب يقع بين أمرين ( كما عبر أبو العلاء)، إما أن يضعف إيمانه ويفقد اتزانه النفسي وييأس ويقول ” يا موت زر “، وإما أن يستجمع قوته ويستحضر رسالته ويقول ” يا نفسي جدِّي “.

ولكن على من يقع اللوم، أمام فقدان وخسارة طائفة من أطهر من في الوطن يتم الدفع بهم دفعاً نحو اليأس والانزواء؟، وعلى من يقع اللوم إذا تحولوا من حالة اليأس والانزواء إلى حالة الكُرْه للزمان والمكان، بل والتحول للعنف والإيذاء؟.

ولمصلحة من يتم رعاية وتغذية هذا الشعور من بهلوانات السياسة وأرجوزات الإعلام وأصحاب الكروش المنتفخة من المال الحرام؟.

وكيف سيكون شكل المجتمع إذا انزوى فيه “حاتم” و “قس” وعلا على قمته “باقل” و “مادر”؟.

وأي نهضة وتقدم يمكن أن نخدع بها أنفسنا في مجتمع على هذه الشاكلة؟!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى