صقر:معركة التحرر بين الأمس واليوم

إذا كان عنوان المرحلة التاريخية لأمتنا العربية الممتد من منتصف القرن التاسع عشر وحتى النصف الأخير من القرن العشرين هو : معركة التحرر من الاحتلال
فإن عنوان المرحلة التاريخية الحالية من نهايات القرن العشرين وحتى مدى لا يعلمه إلا الله هو : مرحلة التحرر من الديكتاتورية
وحتى نستطيع قراءة المرحلة الحالية ونتنبأ بمستقبلها ، يجب أن نقف على ملامح المرحلة السابقة
تمكنت القوى العظمى – وقتها – في العالم من احتلال بلادنا بمساعدة السلطة الحاكمة – وقتها – ووطدت تلك القوى بالسلاح والمكر والمال أركانها ، وكونت شبكة مصالح من طوائف من الشعب قليلة العدد ولكنها مؤثرة تخدم خطط المستعمر وتساعده في امتصاص دم الشعب
فالوجهاء والأعيان ارتبطت مصالحهم التجارية مع المحتل ، والجهاز الإداري للدولة كذلك ، والأحزاب والوجوه السياسية دارت في فلك المحتل
أكثر من ثلاثين عاماً لم يسجل التاريخ أي محاولة جادة لمقاومة المحتل
في ظل هذا الجو القاتم ظهر شاب في العشرينيات من عمره اسمه ” مصطفى كامل ” ، شق صوته جدار الصمت ، جاب البلاد خطيباً لإيقاظ الشعب النائم. حاربته سلطة الاحتلال ، هاجمته الصحافة ، غمزه السياسيون ، سفهه الجهلاء ، ثبطه الزملاء
كل من حوله يردد : نحن أمام قوى عظمى تحالف معها الحكام وكبراء البلاد ، نحن أمام شعب يقتله الجهل والفقر والمرض ، شعب تعود على العبودية منذ مئات السنين ………
فيرد على المثبطين : ” إن العامل الواثق من النجاح يرى النجاح امامه كأنه امر واقع ، ونحن نرى من الآن هذا الاستقلال المصري ونبتهج به وندعو له كانه حقيقة ثابتة ، وسيكون كذلك لا محالة “
ويرد على العملاء :” لا الدسائس تخفينا ، ولا التهديدات توقفنا في طريقنا ، ولا الشتائم تؤثر فينا ، ولا الخيانات تزعجنا ، ولا الموت نفسه يحول بيننا وبين هذه الغاية التي تصغر بجانبها كل غاية
ويرد على من يسفه الشعب :” قد يرى السفهاء والطائشون أن الانتساب لشعب مستعبد كالشعب المصري مما لا يليق بإنسان ، ولكن أي شرف يطمع الحر فيه أكبر من العمل لإحياء الأمة التي سبقت الأمم كافةً في المدنية والعلم والأدب ؟ ، وأي رفعة يسعى الشريف إليها أسمى من إنهاض شعب كان أستاذاً لشعوب البشرية….
( هذه الفقرات وردت في خطبة له بالإسكندرية عام 1907)
احدثت هذه اليقظة شروخاً في جدار اليأس والقهر والخوف ، وبدأت روح اليقظة تسري في الجسد الخامد وحاول المحتل وأعوانه التصدي لها في مهدها ، فحين أصدر ” الغاياتي” ديوانه ” وطنيتي” : عام 1910 كتب مقدمة الديوان “محمد فريد” و”عبد العزيز جاويش” فتم إحالة الثلاثة لمحكمة الجنايات بتهمة التحريض على العنف وإهانة هيئات الحكومة!!!
وحكم (القضاة المصريون) على الثلاثة بالسجن مع النفاذ لمدد من ثلاثة أشهر لسنة
ومما جاء في الديوان : يشتكي الشعب والقضاة خصوم فلمن يشتكي خصوم القضاة ؟؟!!
وتمضي السنون وتزداد اليقظة وتزيد معها جرائم الاحتلال وأعوانه
تسيل الدماء في ثورة 1919 ثم دماء الطلبة على كوبري عباس ، وتتوالى حتى ظهور كتائب المجاهدين في مدن القناة والتي كانت أخر مسمار في نعش الاحتلال
هكذا تدرجت مرحلة التحرر من الاحتلال من مرحلة الاستكانة إلى اليقظة إلى التحرر
والمرحلة التاريخية التي نعيشها الآن هي محاولة وأد اليقظة لأمة استنامت على أنغام شعارات الديكتاتورية زمناً طويلاً
ولن يقف في وجه اليقظة قوى دولية ولا متعاونون محليون ، وهذه هي سنة التاريخ لشعب استيقظ من غفلة ليصحح وضعاً شاذاً جعل من أمتنا بقعة نشاذاً على خارطة العالم
وكما نحكم نحن اليوم على مواقف الأجيال السابقة في معركة التحرر من المحتل ، ستحكم الأجيال القادمة على مواقف جيلنا في معركة التحرر من الدكتاتورية .