Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
آراء

الغريب يكتب :المكوجي الزنيم

اسامة غريبتكمن أهمية الكوّاء أو المكوجي في أنه الشخص الذي نحتاج اليه لنتزين ونبدو في شكل لائق قبل الخروج من البيت. وقد تدرجت مهنة الكواء وأدواته وتغيرت بتغير الوقت، فزمان كانت المكواة المستخدمة كبيرة الحجم وكان الرجل يستخدم قدمه في تحريكها على الملابس لأنها صُنعت لتستخدم بهذا الشكل، وكان يلزم لها طاولة منخفضة تسمح لمستخدمها بوضع قدمه على الجزء الخشبي منها ليحركها بخفة ورشاقة محاذراً ان تحرق الملابس أو تغّير لونها. بعد ذلك قاموا بتصغير حجم المكواة وأصبحت تستخدم باليد ما استدعى ان ترتفع الطاولة ليتمكن الرجل من استخدامها منتصباً بعد ان كان يقوم بالكي منحنياً في فترة مكواة القدم.
بعد ذلك تم اختراع المكاوي التي تعمل بالكهرباء والتي لا يخلو منها أي بيت، وبرغم ذلك لم يستغن الناس عن المكوجي. هذا ولا ترد فكرة كيّ الملابس على البال الا وتستدعي عندي قصيدة «كواء الثياب ليلة الأحد» التي كتبها الأديب عباس محمود العقاد في ديوانه الشهير عابر سبيل وهو ديوان تميز بأن قصائده مثلت نموذجاً لنزول الشعر للحياة بتفصيلاتها العادية وتعبيره عنها ببساطة ودون حزلقة، فكل موضوع في نظر العقاد صالح للتعبير عنه بالشعر ما دام يؤثر في مشاعرنا وعواطفنا، وبالتالي لا يمكن الحكم على موضوع بأنه مهم أو تافه، وانما مقياس الأهمية هو احساس الشاعر نفسه، وعلى قدر هذا الاحساس تتوقف أهمية الموضوع وصلاحيته للشعر.
يقول العقاد في قصيدته عن كواء ليلة الأحد (وليلة الأحد هي ليلة الاجازة التي يستعد الناس فيها للخروج):
لا تنم لا تنم.. انهم ساهرون
سهروا في الظُلَم أو غفوا يحلمون
أنت فيهم حَكَم وهم ينظرون
في غدٍ يلبسون في غدٍ يمرحون
لكن على الرغم من هذا كله فانني ما ان أتذكر كواء الملابس حتى تستدعي الذاكرة واحداً لعيناً صادفته في أمريكا ذات يوم ولا يمكن ان أنساه أبداً، وكيف أنساه وقد قام بخلع أزرار الجاكيت الذي سلمته اياه ليكويه فاذا به يعيده الي خالياً من الأزرار!. يقع محل هذا الكواء الصيني الملعون في حي كوينز بنيويورك. ذهبت اليه راغباً في ان يقوم بتنظيف الرداء وكيه. أخذه مني وأعطاني ايصالاً به موعد التسلم بعد يومين. ذهبت اليه في الموعد فوجدت امرأته تقف بالمحل. أعطيتها الايصال فتوجهت الى الركن الذي به الملابس معلقة وجاهزة للتسليم. أبصرتها تقف مشدوهة أمام الجاكيت تنظر اليه ثم تنظر نحوي ثم تعيد النظر اليه، وأخيراً رفعت الجاكيت عن المشجب وعادت فقدمته لي وأمارات الخجل تبدو عليها. أمسكت به وأنا لا أصدق..أين الأزرار.. سألتها، فقالت: لا أدري. قلت منزعجاً: لا تدرين؟ من يدري اذن؟ قالت: زوجي غير موجود وهو المسؤول عن المحل.. عُد بعد قليل، فلعل لديه تفسير. تركت الجاكيت لديها وانصرفت غاضباً ثم رجعت اليهم بعد مرور بعض الوقت لأجد صاحب المحل. حدجني بنظرة ماكرة وعندما سألته عن الجاكيت قام باحضاره كما هو وقدمه لي بمنتهى البراءة. عاودت السؤال عن الأزرار، فقال: أزرار.. أي أزرار؟ لقد أحضرت لي هذا الرداء هكذا من دون أزرار فكيف تريد ان تتسلمه مني وقد اكتسي بالأزرار.. هل تظنني ساحراً؟. قلت وأنا أتميز من الغيظ: أنت تعلم جيداً ان الجاكيت كان يغص بستة عشر زِراً في الصدر والأكمام وفي الداخل أيضاً، فقل لي بالله عليك لماذا انتزعتهم وماذا فعلت بهم؟ قال وهو يتصنع الغضب: أنا رجل شريف ولا يمكن ان تمتد يدي الى أشياء الزبائن. قلت: ليست الأزرار قيّمة حتى تطمع فيها أنت أو غيرك، انما هي أزرار عادية فما الذي حدث بالضبط.. هل تقطّع بعضها أثناء الغسيل فرأيت ان تتخلص من الباقي ثم تستعبط وتمارس تمثيل فيلم هندي أو صيني أمامي..قل لي الحقيقة ولا تخش شيئاً. قال في صلف: ليس عندي غير ما قلته. صرخت في وجهه رغماً عني: هل أنت مجنون يا رجل؟ هل تعي ما تقول؟ أمن المعتاد ان يحضر اليك زبون سترة ليس بها أزرار؟ قال: لا. قلت: لماذا اذن لم تقل شيئاً عندما أعطيتك ردائي على النحو الذي تصفه؟ قال: الناس أحرار في هذا البلد وأنا لا أتدخل في أمزجتهم، ولعلك تفضل ارتداء الحلل هكذا.. هذا شأنك ولا يحق لي ان أراجعك فيه!. وقفت أمامه صامتاً وقد عقدت الدهشة لساني.. هذا الرجل مجرم وكذاب ولا يريد الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية.. ماذا أصنع له؟ ان بإمكاني ان أشكوه لهيئة حماية المستهلك وعندها ستكون كلمته ضد كلمتي، ومن المؤكد أنهم سينصفونني. نظر نحوي وكأنما خمّن ما يجول بخاطري ثم عقد يديه في ضراعة وهو يقول: أقسم بالله أنني لا أعرف شيئاً عن أزرارك، ولتحترق روحي في الجحيم ان كنت أكذب. قلت له صادقاً: ان روحك ستحترق في الجحيم في كل الأحوال أيها المخادع الملعون.
لم يكن صعباً ان أقوم بتركيب أزرار جديدة، لكني مازلت لا أفهم ماذا حدث لأزراري عند هذا الرجل.. ولا أظن أبداً ان عباس العقاد عندما كتب قصيدته الجميلة «كواء ثياب ليلة الأحد» كان يخطر بباله وجود أمثال هذا المكوجي الصيني الزنيم!

أسامة غريب

نقلا عن الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى