آراءدولي

مواطنون أم زبائن ؟!

بقلم : مهندس / محمود صقر

محمود صقر
محمود صقر

بعد عقود من التخلف والغيبوبة بتأثير “حرب الأفيون” والتفكك بسبب الغزو الخارجي والحرب الأهلية ، بدأت الصين في منتصف القرن العشرين النهوض من كبوتها. كان الغرب تحت قيادته الاستعمارية الجديدة ” الولايات المتحدة الأمريكية ” يضع عينه على الصين بصفتها الزبون المنتظر للرأسمالية الأمريكية والغربية لامتلاكها ثروة بشرية ( زبائن ) في هذا الوقت عددهم سبعمائة مليون إنسان بخلاف الثروات الطبيعية الهائلة . كان أمام الصين أحد طريقين : إما توظيف ثروتها البشرية لاستثمار مواردها الطبيعية وبناء الصين بسواعد صينية. وإما تحويل الصين إلى سوق رأسمالي يستثمر فيه الغرب ، وتنمو الصين سريعاً ، ويزداد فيها المال ووسائل الرفاهية ، ويأكل أهلها الكنتاكي والهامبرجر ، وهو طريق سهل للحصول على الدعم الأمريكي الغربي مقابل التخلي عن الخصوصية الثقافية والإرادة السياسية . اختارت الصين الطريق الأول ، الطريق الشاق الطبيعي لأي بناء . وقف العالم كله بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أمام الصين ، وحاصرها وعاقبها عقاباً جماعياً ، وحرم أمة تعداداها 700 مليون إنسان من عضوية الأمم المتحدة . صمدت الصين أمام الضغوط ، نحتت في صخرة تربتها ، تشبثت بأصالة ثقافتها،…خمسة عقود وأجيال تحرث وتبذر وتزرع لتأتي أجيال اليوم والغد لتنعم بالحصاد. ولا نريد أن نتوسع في تجارب أخرى ، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل نظام سياسي من الخطأ استنساخه . ولكن يقفز إلى الذهن مباشرة تجربة مصر في منتصف السبعينيات حيث قررت تحت مسمى ” الانفتاح ” أن تدخل ” كزبون ” جديد مُرحب به كمستهلك لمنتجات الغرب. وبالفعل نشأت طبقة من الأثرياء وتوسع الناس في الكماليات. ولكن بمقدورك أن تقارن بين مستوى الزراعة والصناعة والخدمات التعليمية والصحة قبل وبعد أن أصبحنا زبائن ، لتعرف الفارق بين سياسة بناء وطن وسياسة بناء زبون جديد . وأختم بموقف معبر حدث معي حين اصطحبت والد زوجتي إلى أحد النوادي العريقة في الإسكندرية ، وكان قد تجاوز الثمانين من عمره ، وكان رجلاً مديد القامة رشيق الجسم ، يعلو محياه وقار وهيبة ، وكان بلحيته البيضاء شديد الشبه (بشكل ملفت) لأنطوني كوين في دور عمر المختار ، وكان يصر (رحمه الله ) على ارتداء الزي الريفي ( الجلباب والشال والعباءة ) . فرفضت إدارة النادي دخوله لعدم التزامه بالزي ” الافرنجي” . هذا نموذج للحرث الثقافي لتهيئة التربة لانبات زبائن، حيث ازدراء واحتقار الذات بتاريخها وتقاليدها وعاداتها ولغتها وعقيدتها،وحيث يكون تقييم الانسان علي أسس الاستهلاك: ماذا يلبس ويركب وفي أي المطاعم يأكل … .!! يا عزيزي : من السهل أن تفتح بلادك للاستثمارات الأجنبية ، وتصبح ” زبون ” في سوق الرأسمالية ، وتفرح وتصفق لأراضٍ تخصصها لمشروع كذا وكذا ، ويزداد ثراء الأثرياء وفقر الفقراء . وتعيش في مجتمع قيمة الإنسان فيه على قدر استهلاكه ، ونوعية استهلاكه. ولكن من الصعب أن تبني وطن وتصنع حضارة وتمتلك إرادة وتحفظ ثقافة وتؤدي رسالة. لأنه للأسف … هذا الطريق لاتبنيه الاغاني الوطنية والرقصات الفلكلورية والشعارات الفهلوية..!!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى