آراءدولي

صقر: هل يعود المثقف التائه؟

محمود صقر
محمود صقر

محمود صقر:

هل يعود المثقف التائه.؟

تكشف لنا قصة “قنديل أم هاشم” للراحل يحيى حقي، حالة الصراع التي عاشها المثقف في رحلته من حالة الاغتراب التي عاشها بعد عودته من الغرب إلى الوصول للتكيف مع مجتمعه.

فشخصية “إسماعيل” الطبيب العائد من الغرب، تبدأ بشعور الغربة بمجرد وصوله إلى وطنه بعد الغيبة، غربة تصل إلى حد الازدراء لقومه، ثم الصدام مع حالة الجهل والخرافة التي تريد معالجة “عمش” خطيبته بزيت قنديل أم هاشم، فيحاول هو معالجتها بالعلم الذي تعلمه في أوربا، فيفشل ويتسبب في عماها، فتزداد ثورته ويذهب إلى المسجد ويكسر القنديل ويسكب الزيت، فيضربه الناس، ويهرب ويعيش حالة تيه، يعود بعدها إلى رشده، ويقرر العودة لعلاج خطيبته مستخدماً علم أوربا وزيت قنديل أم هاشم (علم أوربا وروحانية الشرق) فينجح في علاجه ويشفي المريض.

قصة حقيقية (كما يقول يحيى حقي) تحمل رمزية حالة الاغتراب التي عاشها المثقف العائد من الغرب، منهم من استمر في غربته، بل وتحول من الاغتراب إلى الكراهية والازدراء.

كما عبر عنها “سلامة موسى” في كتابه “اليوم والغد” :”كلما زادت معرفتي بالشر ق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهرة، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب”.

ومنهم من عاش الغربة وأفاق منها سريعاً. كنموذج “توفيق الحكيم” بعد عودته من فرنسا كما ذكر لصديقه “أندريه” في رسالة من رسائله له، المجموعة في كتاب “زهرة العمر”: “… أعيش في جو فكري لا يستطيع أن يعيش فيه مثلي، أصدقاء الماضي أصبحوا لا يصلحون اليوم لي، فحديثهم ونكاتهم وطريق قتلهم للوقت مما يزهد في الجلوس إليهم، وإن شئت وصفاً دقيقاً لحالي فهو يتلخص في كلمة واحدة: الوحدة، الوحدة في أكمل وأقسى معانيها”.

ومنهم من طالت غربته ثم عاد لجذور ثقافته كنموذج الدكتور “زكي نجيب محمود”، حيث ذكر في مقال له بعنوان “قلم يتوب” أنه قلب في أوراقه القديمة فوجد فقرة يقول فيها: “إنني في ساعات حلمي، أحلم لبلادي باليوم الذي أتمناه لها، فإنما أصورها لنفسي وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون (في الغرب)، وارتدينا من الثياب كما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون، لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون”.

ثم ختم مقاله بقوله: “رأيت القلم الذي شطح ذات يوم في تطرفه نحو الغرب، قد عاد آخر الأمر إلى توبة يعتدل بها، فيكتب عن عروبة جديدة تكون هي الثقافة التي تصب جديداً في وعاء قديم، أو تصب قديماً في وعاء جديد”.

وأود أن ألفت الانتباه إلى أن من عجيب أمر الثقافة أن لها روحاً تنبت من المكان والزمان والنشأة والتاريخ.

هذه الروح لا تُنتزع بسهولة ممن فيه بقية خير وإخلاص.

أما من خرج ولم يعد فهو كالابن العاق ليس فيه خير لأهله مهما بلغ من العلم والجاه.

ولأن مساحة المقال لا تتسع لنماذج أكثر، أُحيل القارئ الكريم لكتابات الدكتور محمد عمارة عن نفس رحلة الانتقال التي مر بها الدكتور طه حسين.

والخلاصة أن جيل المقلدين الذي تبع جيل الرواد، لم يتعبوا أنفسهم في البحث عن تحولات الرواد الفكرية، ووقفوا عند مراحلهم الأولى جهلاً أو عمداً، بل أخفوا تلك التحولات عن قرائهم تماماً كما أخفوا الجانب النضالي الذي خاضه مثقف الغرب في جانب الحريات مقابل إبراز دورهم في إقصاء الدين.

معظم جيل الرواد حاول العودة من التيه، وكان نجاحهم بدرجات متفاوتة.

فهل الأتباع والمقلدون عندهم نفس المؤهلات العلمية والشجاعة للبحث عن الخروج من التيه؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى