آراء

رسالة مفتوحة إلى شيخ الأزهر فضيلة الدكتور أحمد الطيب بشأن الإبادة الجماعية في غزة وفلسطين

د. محمد علي الصلابي

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ..
أُرسل هذه الرسالة من القلب، تقديراً لمواقفك المبدئية والشجاعة، وقناعاتك الإيمانية الراسخة في التصدي للظلم والعدوان الواقع على الأطفال والنساء والشيوخ والمظلومين في قطاع غزة وفلسطين. فالكلمات والبيانات والمواقف والفتاوى التي صدرت عنك وعن المشيخة في ظل هجمة الكيان الصهيوني على أهلنا في غزة والضفة الغربية، ستظل خالدة، وهذه المواقف التي زادت من مكانة الأزهر؛ بمؤسسته العلمية العريقة، والشعب المصري العظيم، بكل مكوّناته وأطيافه، ورفعتها، إلى مقام سامٍ في ميادين النخوة والشجاعة والمروءة والكفاح.
فمصر العزيزة، بأزهرها وعُلمائها وقياداتها وشعبها ومؤسساتها الأصيلة، كانت ولا تزال للإسلام عزاً، وكان ولا يزال أهلها له مجداً، وما قول أمير الشعراء أحمد شوقي (رحمه الله) في مديح الأزهر الشريف إلا دليل على أصالة ذاك الدور التاريخي له في التربية والدعوة والإعداد والتمكين، ونصرة المستضعفين والمظلومين:
قُم في فَمِ الدنيا وحَيّ الأزهرا وانثر على سمع الزمان الجّوهرا
واخشع مليَّاً، واقضِ حقَّ أئمةٍ طَلعوا به زُهراً، ومَاجو أَبحُرا
زمن المخاوفِ كان فيه جَنابهُم حَرمَ الأمان، وكان ظِلهم الذَرا.

فضيلة شيخ الأزهر الجليل: تَعلمَتِ الأُمة من عِلمكم، ونهلت من كتب ومصنفات وفتاوى شيوخكم وفُقهائكم، واستظل طلاب العِلم بظلال القرآن الكريم والتفاسير والفقه والعقيدة واللغة العربية والأدب الرفيع، وفِهم عوامل التمكين والشهود الحضاري، في صحن الأزهر وتحت قبابه، وفي أروقته الزاخرة بالروح والبذل والعطاء والتواضع؛ فذاع صيته، ووصل أثره إلى جميع أرجاء المعمورة، ولا يزال الأزهر يُخرج في كل عامٍ، طلاباً ودعاةً ومؤدِبين يقصدون مشارق الأرض ومغاربها.
يا فضيلة شيخ الأزهر: لقد وقف سَلفك الكرام على مر العصور لمناصرة الحق والدفاع عن حياض المسلمين، وهذا ليس غريبًا عن مصر وأهلها، فهم وصية رسول الله ﷺ لأصحابه، حيت قال: “إنكم ستفتحون مصر، فاستوصوا بأهلها خيرًا”. ولقد تجلت أخيرية أهل مصر حينما تصدوا ببطولة لغزو التتار فدحروهم، وكان للعلماء، وعلى رأسهم العز بن عبد السلام (رحمه الله) الدور الأكبر في معركة عين جالوت التي قادها القائد الإسلامي المظفر قطز (رحمه الله)، ولولا الله ثم صوابية رؤية العز بن عبد السلام وفتاويه في تلك النازلة ما كان الانتصار الساحق على المغول ينجز في عالم الأسباب.
ولا ننسى دور الأزهر وجهوده المباركة والشجاعة، في التصدي للاحتلال الفرنسي في عهد نابليون بونابرت (١٧٩٨ – ١٨٠١م)، والتضحيات العظيمة للشعب المصري، ومن خلفه القيادة الفعلية للأزهر بعُلمائه وفُقهائه وأئمته، فسطروا حينها صفحات من الجهاد والصمود والتصدي نصرة لديار الإسلام، وجهاداً في سبيل الله، وكذلك دورهم في التصدي للاستعمار الإنجليزي، وقيادة الشعب المصري، وتوعيته، والإفتاء في الجهاد، والانخراط في الثورات المصرية ضد الإنجليز في أعوام (١٨٠٦، ١٨٨٢، ١٩١٩، ١٩٥٢م)، والتي كانت ضد ذلك الاستعمار البغيض.
كما كانت مواقفهم مشرفة في التصدي للصهاينة في مراحل مبكرة، وذلك من بداية مشروع الاستيطان في ظل الاستعمار الإنجليزي لفلسطين، ولم يتوان الأزهر وعلمائه بقلوبهم ووجدانهم وألسنتهم وأنفسهم في نصرة فلسطين، ولا زالت مظاهرات عام ١٩٢٩م التي قادها شيخ الأزهر مصطفى المراغي (رحمه الله) وعلماء وطلاب الأزهر حين نددوا بتجمعات اليهود التي نادت في تل أبيب بعبارات “حائط البراق حائطنا” ترددها الأجيال. وكذلك حين قادوا حشوداً شعبيةً غفيرةً انطلقت من باحات الأزهر ضد قرارات اللجنة الملكية البريطانية بتقسيم فلسطين عام ١٩٣٧م، وتلك المواقف أمثلة واضحة على تحملهم المسؤولية وأمانة الأمة، واِتقاد الروح الوطنية لديهم.
وتكررت مواقف الأزهر المشرّفة تجاه قضية الكفاح ضد الصهاينة، ومنها موقف شيخ الأزهر الراحل عبد الحليم محمود (رحمه الله تعالى)، والذي كان له الدور البارز في التعبئة الروحية للمصريين، ودعم القيادة السياسية في مصر في حرب أكتوبر عام 1973م.
شيخ الأزهر الجليل: لقد هيأ الله لك الأسباب لتضطلع بأمانة رئاسة الأزهر، وما تمثله من مكانة اعتبارية في ضمير الشعب المصري والأمة الاسلامية، وأنت – بإذن الله – أهل لأن تؤدي أمانة هذه المكانة، ولتقوم بأعبائها في الوقوف مع قيم بلدك العظيم ومبادئ شعبك وأمتك، الداعية لوقف هذا العدوان الإجرامي الاستئصالي البربري الهمجي الشيطاني. وإن أمل المظلومين في فلسطين، وأمل الأحرار في هذه الأمة، معقود بعد الله، بمواقفكم الشجاعة، والروح الأبية للشعب المصري الحبيب، والدور المحوري لدولة مصر، لكي تقوموا بواجب دفع هذه المظالم، ونصرة المظلومين، مما لن تنسه الأجيال المسلمة والشعوب الحرة، والأجر فيه عظيم عند الله تبارك وتعالى.
يا شيخ الأزهر الجليل: كم كان لفتاويك وتصريحاتك تجاه الأحداث الأخيرة في غزة وفلسطين من أثر بالغ على أحرار العالم، وأمة الإسلام، والشعب الفلسطيني المظلوم؟، فلقد كان خطابك هو من أقوى الخطابات، وصوتك من أعلى الأصوات ارتداداً وأثراً في مساندة المظلومين الفلسطينيين، وتثبيتهم بالقول الصادق، بحُكم موقعك، ومكانتك الرفيعة، وإحكامك للمفردات اللغوية التي لامست القلوب، ونوّرت العقول في التعبير عن حجم الكارثة الإنسانية في غزّة، ومن الأقوال التي صدرت عنك، وعن مؤسسة الأزهر الشريف:

  1. “لن يرحم التاريخ المتقاعسين والمتخاذلين عن نصرة فلسطين”.
  2. “كل احتلال إلى زوال آجلاً أم عاجلاً، طال الأمد أم قصر”.
  3. “أدعو شعوب العالم وقادته لمساندة الشعب الفلسطيني، بما يحدث من استهداف النساء والأطفال”.
  4. “أدعو شعوب العالم وقادته لمساندة الشعب الفلسطيني ووقف قتله، والكف عن الكيل بمكيالين”.
  5. “العالم لا يزال في صمت مخزٍ تجاه الإرهاب الصهيوني، وانتهاكاته بحق الأقصى وإخواننا في فلسطين”.
  6. “اقتحام المسجد الأقصى، والاعتداء السافر على المصلين، إرهاب صهيونيّ غاشم في ظل صمت عالميّ مخزٍ”.
  7. “مستوطنو الأرض المحتلة مغتصبون معتدون وليسوا مدنيين”.
  8. “حكام العرب يقولون أنهم يحتاجون من الدول الغربية أن تضغط على إسرائيل، وأنا أقول له بل أنتم تحتاجون أن تضغطوا على الغرب بقطع العلاقات وسحب السفراء وقطع الإمدادات سواء بترول أو غيره وعندها فقط سوف ينضغط الغرب ثم يضغط عليهم”.
    يا فضيلة شيخ الأزهر: إن مصر بشعبها ومؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية والشعبية مع خطابك الإنساني، المستمد من القيم الروحية والأخلاقية. وهم في أشد الحاجة إلى سماعك لتفجير هذه الطاقات الروحية والأخلاقية في نصرتهم، ودعمهم بمساندة علمية وروحية وأخلاقية مبنية على فقه النوازل في وجوب رفع العقاب الجماعي على المستضعفين في غزّة.
    يا شيخ الأزهر الجليل: إن الأمة بحاجة إلى فتوى توجب الوقوف مع الجار المعتدَى عليه، ورفع الحصار في الغذاء والماء وإدخال المساعدات الطبية، ومعالجة الجرحى، وتوفير ملاذات آمنة للمدنيين برعاية مصرية وأممية، والبحث في كل الوسائل ظاهرة وباطنة؛ محلية وإقليمية ودولية. ولا ينقص شعبكم ودولتكم ومؤسساتكم شيئاً يجعلكم تتخلفون عن هذا الواجب الإنساني والشرعي والأخلاقي.
    يا فضيلة شيخ الأزهر: أيُرضيك أم يُرضي أحداً من أهل مصر الغيورين، أن يسجل التاريخ عنهم خذلانهم لأهل قطاع غزة خوفاً من الكيان الصهيوني وأتباعهم وحلفائهم؟ وماذا تقول لربك حين تقصّر في مساعدة هؤلاء المستضعفين بكل ما تستطيع، وخلفك الشعب المصري العزيز بكل ما يملك مع رفع هذا الحصار، ووقف العدوان الغاشم؟
    يا شيخنا الجليل: إن ضمير الشعب المصري ووجدانه يرفض هذه الأعمال العدوانية والإجرامية، فكن أنت المعبر عن وجدانه، والبوصلة المرشدة لقيادته، والانتقال من القول إلى العمل، من خلال تبليغ النصح لقيادة مصر السياسية، وإصدار فتوىً صادقة في تبيان أهمية نصرة شعب فلسطين ورفع الحصار عن غزة، والوقوف مع المظلومين من أبناء الأمة هناك. ففي واقع الأمر، أنت تحظى باحترام وتقدير، وكلمتك لها حضورها لدى قيادة الدولة المصرية والشعب المصري، فيمكن حثهم على العمل لرفع هذا الحصار عن غزة، وإيقاف العقاب الجماعي عن أهلها المعذبين، وتقديم المساعدات الإنسانية لهم دون تردد.
    يا شيخنا الجليل: إن مصر بمركزها التاريخي وشعبها العظيم وهيبتها الإسلامية، أكبر من تخشى هؤلاء المجرمين والقتلة من أتباع إبليس. وأنت تعرف أكثر مني أنهم مهزومون في أعماقهم، كما أن كيدهم ضعيف لأنه من كيد الشيطان، والله يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
    والله إني أخشى على أهلنا وإخواننا في مصر، ولمن لهم سلطة القرار فيها، أن يَجلبوا سخطاً وغضباً من العزيز الجبار على بلادهم من تقصيرهم وعدم مدّ العون الحقيقي، لإخوانهم والتصدي لأتباع الشيطان، وأعداء الإنسانية في فلسطين. وأنت تعرف يا شيخ الأزهر، أن من سنن الله الماضية في خلقه، والتي لا تتبدل ولا تتغير أن عقوبته على خذلان الأقوياء للضعفاء، أشد من بلائه على الضعفاء.
    وبحقٍ، إننا نخشى على أنفسنا وشعوب الأمة وقياداتها الحاكمة من غضب الله علينا، لإهمالنا، وعدم وقوفنا بكل قوةٍ وإرادةٍ ضد هذا العقاب الجماعي الظالم.
    يا شيخنا الجليل: هيأ الله لك عملاً جليلاً عظيماً، وجهاداً كبيراً، وأنت في هذه السنّ، فتوكّل على الله، واستعن به، وأخلص له في مساعيك، واِطلب منه العون والسداد، وإن شاء الله تكون من المنصورين. وإن قضيتك يا شيخنا الجليل في الدفاع عن الشعب الفلسطيني في غزة ووقوف الإجرام والعقاب الجماعي، من أعظم القربات عند الله عزّ وجلّ.
    كتب الله أجرك وأعلا الله ذِكرك، ووفقك لما فيه من خير مصر، والمستضعفين في غزّة، وفي العالم.
    وإننا نستعين بالله القوي العزيز، الحكيم، الناصر، المعز، الرافع الخافض؛ أن يوفقكم وشعبكم والأمة الإسلامية وقادتها لما فيه خير للأمة الإسلامية ونصرهاً وعزّتها. وأختم كلامي بقول الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173، 175].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى