ابستمولوجيا المعرفة عند الغزالي
د/ محمد القطاونة’- أستاذ العقيدة والفلسفة
لازالت نظرية المعرفة وموضوعها ومنهجها محل اهتمام الفلاسفة والمفكرين والمهتمين بالمعرفة، وما زال الفكر الإسلامي غني بهذه النماذج المعرفية التي يمكن أن يقدمها للعالم كأسس ومفردات معرفية عميقة من شأنها تصحيح مسار الإنسانية المعرفي في ضوء الأزمة التي يعيشها والتأكيد على الحقيقة المعرفية في آن واحد. ان الفكر الإسلامي وانطلاقا من الوحي يحمل نظرة شمولية للمعرفة ونظرياتها لا مثيل له على الإطلاق، فقد قدم الوحي الإلهي شروحا لجميع النظريات المعرفية، كطبيعة المعرفة، وإمكانها، ومصادرها، وحدودها، ومعيار الحقيقة، ومناهجها، كالسفسطائية، والظنية، والبراغماتية، والمثالية، والشك المنهجي، إما شارحا لها وموضحا، وإما ناقدا ومحللا، وإما مبيننا للمعرفة ومنهجيتها ومصادرها وطرق الوصول إلية، وهذا ما تلمسه علماء الوحي الذين أسسوا معارفهم على ركيزته وانطلاقا من شموليته وسعة اُفقه، وان كان فلاسفة الإسلام ومتكلموه تفاوتوا في منهاجهم المعرفية ما بين مؤكد على مصدرية الوحي ومحاولة استيعاب المعرفة في ضوء الوحي وعلومه، وبين مبتعد يحاول جذب نصوص الوحي الى ساحة الآخر لمحاولة التوفيق والشد، كل هذه النماذج الفكرية الإسلامية هي ساحة للنقاش والتحليل والنقد والوقف على هذه المناهج نوع من إعادة صياغة المعرفة في ضوء أدوات الواقع المعاصر، فلقد باتت المعرفة ونماذجها كتابا مفتوحا للجميع وفضاءاً معرفيا متاحاً، ومن حق الفضاءات المعرفية الجغرافية والإيدلوجية الاطلاع على عمق التجربة الإسلامية في البناء المعرفي . في ضوء ذلك لا يمكن الحديث حول نظرية المعرفة ومناهجها في الفكر الإسلامي دون الحديث عن الغزالي وتجربته المعرفية التي أسس لها من خلال كتبه العميقة
في نظرية المعرفة يتناول الفلاسفة طبيعة المعرفة، وإمكانها، ومصادرها، وحدودها، ومعيار الحقيقة، ولم يكن الغزالي استثناء في اهتمامه بمسألة المعرفة وفي بداية حياته الفكرية كان جزميا في اعتقاده أن المعرفة ممكنة وأنها تبدأ بالإدراكات الحسية وكذلك الأوليات الضرورية، فأخذ ببعض آراء أرسطو في النفس الناطقة وتعريفها، ووسائل الإدراك فيها. فكان الفيلسوف والمتكلم العقلاني والمفكر النظري، وفي المرحلة التالية من حياته الفكرية انثنى الى المعرفة القلبية أو الذوقية (كشف الشهود) بعد أن مر بمرحلة من الشك المنهجي الذي يقود الى معرفة يقينية، فقدم نظرية متكاملة فيما سماه المعرفة القلبية وقد تبين أن هذه المعرفة لم تخل من بعض الآثار الفلسفية من الأفلاطونية المحدثة، فكان الغزالي فيلسوفاً متصوفاً.
فمصادر المعرفة عند الغزالي في صورتها النهائية مرتبطة أشد الارتباط برحلته في البحث عن الحقيقة ولهذا تراه يصرح بذلك في حديثه عن وصوله للعلم اليقيني، فيقول: “وقد كان تعطشي إلى درك الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان، عمري غريزة وفطرة من الله… فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة”، وهي تقسم بشكل عام إلى قسمين: المعرفة المحمودة: وما تضمنته من العلم الذي هو فرض عين، والعلم الذي هو فرض كفاية ، والمعرفة المذمومة: وهي تتضمن علم الكلام والفلسفة الخارجة عن الأدلة التي ينتفع بها، أو التي لا فائدة مرجوة فيها، وأيضا علم السحر والطلسمات، وعلم النجوم إذا كان مضرا لصاحبها . ولأن هدفه الوصول إلى العلم اليقيني؛ فهو عنده: “العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه؛ مثلاً من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا لم يورث شكا أو إنكارا، ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا تيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان مع معه فليس بعلم يقيني ” لذلك عند بحثه عن إمكان المعرفة كان هدفه البحث عن الحقيقة بكل المدارك والمعارف الحسية والعقلية والقلبية، ولكي يصل إلى الحقيقة اليقينية كان لا بد من أن يستخدم منهج الشك أو المذهب الشكي، أو الشك المنهجي ، وهذا الشك كان أول دافع له إلى النظر العقلي الحر، فقد اعترف الغزالي بما لهذا الشك من فائدة، عندما ذهب إلى أن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي أعمى ، ويظهر استخدامه للمنهج الشكي عندما اختبر شاهد الحس والعقل وعجز انفراد كل منهما إلى الوصول إلى الحقيقة اليقينية لأن الخطأ فيهما وارد. ويبدو أنه رغم أن نظرية المعرفة عند الغزالي تقوم على نقد وسائل العلم والمعرفة التقليدية، فهو يدعو إلى ضرورة التلازم بين العقل والشرع من أجل الوصول إلى اليقين، على أن الغزالي لم يتزحزح قيد أنملة عن تأكيد أهمية المعرفة العقلية رغم ما قدمه من
نقد وشك. ينظر كذلك (دراسة، نظرية المعرفة عند الغزالي ومقارنتها بالفلسفات التربوية، احمد ضياء، النصيرات )