منوعات

فقه الأوليات في تطبيق الحسبة في المسائل العقدية في المجتمعات

د. محمد القطاونة- أستاذ في العقيدة والفلسفة||

إن منهج الإسلام في تطبيق الحسبة في المجتمعات يقتضي مراعاة حال المجتمعات ومدى ظهور المنكر فيها، ويكون بحسب مقتضى الحال، يقول الغزالي: (ينظر فيها من خلال مراعاة أحوال المجتمع الذي حدثت فيه البدعة فإذا كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة عليه…..، وإن كان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان، فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره، فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل وما يكون من جهة الآحاد يتقابل الأمر فيه)1 [].

ومن يدقق النظر فيما قاله الغزالي يجد عدة ضوابط في منهج الحسبة وتطبيقاتها في باب البدع المنكرة فتجده يؤكد على النظر في حال المجتمعات والضرر المترتب على منهج الاحتساب وكيفيته، فإذا كانت المسألة المحتسب عليها في مجتمع مسلم ومدرك خطر هذه البدعة فيمكن الاحتساب فيها على مستوى الفرد والمجتمع؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى تفريق كلمة الأمة أو خلق مشكلة وبدعة أكبر، ولا يترتب ضرر نتيجة الاحتساب أما إذا كانت المسألة المحتسب فيها تشكل فتنة بالمقابلة فليس لأحد الحسبة فيها إلا بإذن السلطان، وذلك لما تقتضيه مصالح أخرى تترتب على إقامة الاحتساب وهذا ضابط مهم في مسائل الاعتقاد والتي يترتب عليه تكفير المجتمعات، وإشاعة الفوضى فيها وما يترتب عليه من ضرر أكبر تكون نتيجته سفك الدماء وانتهاك الأعراض.

 إضافة إلى ما سبق يبين الغزالي مسألة في غاية الأهمية في باب الاحتساب في مسائل الاعتقاد في التمييز بين منهج الاحتساب في المسائل العقدية والمسائل الفقهية، في ساحة الخلاف الفقهي أو العقدي.

يقول الغزالي: “فإن قلت إذا كان لا يُعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي لأنه يرى أنه حق فينبغي أن لا يُعترض على المعتزلي في قوله: إن الله لا يُرى؟ وقوله: إن الخير من الله والشر ليس من الله؟ وقوله: كلام الله مخلوق؟ ولا على الحشوي في قوله: إن الله تعالى جسم؟ بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله: الأجساد لا تُبعث وإنما تبعث النفوس، لأن هؤلاء أيضًا أدى اجتهادهم إلى ما قالوه وهم يظنون أن ذلك هو الحق. فان قلت: ببطلان مذهب هؤلاء ظاهر فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضًا ظاهر، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى والمعتزلي ينكرها بالتأويل فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي كمسألة النكاح بلا ولي ومسألة شفعة الجوار ونظائرها؟ فاعلم أن المسائل تنقسم إلى ما يتُصور أن يقال فيه: كل مجتهد مصيب. وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة وذلك هو الذي لا يُعترض على المجتهدين فيه إذا لم يعلم خطؤهم قطعًا بل ظنًا، وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحدًا كمسألة الرؤيا والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية على الله تعالى فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعًا ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه، فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق، كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع بخلاف الخطأ في مظان الاجتهاد” 2[]

أمام هذا النص نجد ضوابط جمة في هذا الباب ومنها التمييز بين منهج الاحتساب في المسائل العقدية عن المسائل الفقهية ومما يسع الخلاف فيه وما يكون فيه الخلاف معتبرًا، وبين المسائل العقدية مما لا يتصور أن يكون للمصيب فيه دليل. 

المراجع:

[1] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، الجزء الثاني، ص: 332.

[2] يُنظر: الغزالي، أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، المجلد الثاني ص. 326-327. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى