سلم الأولويات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مسائل الاعتقاد
د/ محمد القطاونة- أستاذ في العقيدة والفلسفة||
إن من أهم الضوابط في تطبيق الحسبة للمسائل العقدية معرفة الأولويات فهو ضابط مهم، ويخفى على كثير من المحتسبين؛ لأنه بحاجة إلى معرفة في علم المقاصد والتي من خلالها تتضح الأولويات في تطبيق مسائل الحسبة، ومن هذه المسائل والقواعد المهمة في تقعيد فقه الأولويات كضابط في مسائل الاعتقاد، معرفة الأهم في ترك المحرمات أم فعل المأمورات، وأسباب تفاوت المأمورات والمنهيات، وتفاوت الأحكام من حيث القطعية والنصية فبهذه القواعد يعرف ما حقه التقديم وما ينبغي البدء به أثناء ممارسة الحسبة، بناء على المعرفة السابقة بمراتب الأحكام الشرعية وبناء على ما يتطلب الظرف البدء به. وتأتي أهمية هذا الضابط في واقعنا المعاصر، مما يتلبس على المحتسب من المسائل التي لا يعرف الترجيح فيها، واضطراب النسب في الأحكام الشرعية، وانشغالهم في الفروع على حساب الأصول، والمهم على حساب الأهم، ويكون ذلك إما على الجانب النظري أو الجانب العملي في الحسبة. نستطيع أن نقول بأن فقه الأولويات تأتي أهميته بالنسبة إلى المحتسب في أمور:
- أولًا: معرفة ما يستحقه التقديم وما ينبغي البدء به أثناء ممارسة الاحتساب بناءً على المعرفة السابقة بمراتب الأحكام الشرعية.
- ثانيًا: في مجال التزاحم ويقصدون به معرفة ما له حق التقديم والأسبقية عند تزاحم حكمين شرعيين في عالم الامتثال.
- ثالثًا: فقه الضوابط التي يتم بناء الترجيح عليها في حالة التزاحم أو في غير حالة التزاحم[[1]].
وكل هذه الاستعمالات لمصطلح (الأولى) يجمعها معنى واحد هو: الأحق بالتقديم والتأخير على غيره. ومعلوم أن هذا التقديم بحكم شرعي على آخر، وهو على المستوى التنفيذي للأحكام الشرعية لا على المستوى الاعتقادي. لأنه لا تصور للأولويات إيمانيًا واعتقاديًا؛ لأن الإيمان لا يتجزأ والتشريع قد اكتمل، فيجب الإيمان بالكل. ولكن المراد عند إرادة تنفيذ أحكام الشرع ووقوف عوائق تعرقل التنفيذ الكلي لها، نكون مرغمين على سلوك منهج التدرج على أن يتحقق التطبيق الشامل ويكون هذا المنهج مرتكزًا على مبدأ الأولويات، بتقديم ما يستحقه التقديم حتى لا يضيع الوقت والجهد في أمور لا يضر تأخير تنفيذها، أو يترتب ضرر في البدء فيها[[2]]. ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى اختلالات حصلت بين عدم مراعاة ضوابط فقه الأولويات في مسائل الاعتقاد، ومثال ذلك (علم الكلام) والذي نشأ لغاية وظروف الدفاع عن العقيدة الإسلامية، ولكن بسبب عدم وضع ضابط لهذا المسلك والمنهج، انتقل من الدفاع عن العقيدة إلى مسائل لم تكن مطروحة في مسائل الاعتقاد، فانحرفوا بذلك عن وظيفته، وأصبح أداة بلبلة وفرقة وانحراف بدلًا من أن يكون أداة تصحيح وتوحيد واحتساب على مسائل الاعتقاد.
يقول د. محسن عبد الحميد: فأصبح علم الكلام صراعًا فلسفيًا لاهوتيًا مع أصحاب الملل والنحل الأخرى ثم سرعان ما اختزل هذا المنهج صورة العقيدة الإسلامية المنطلقة من الوحي، وانتقل هذا الصراع الفلسفي من الخارج إلى داخل المسائل العقدية الصافية، وتحول الجدل إلى داخل العقيدة نفسها وبين المسلمين أنفسهم. وهذا ما كان له أن يحدث لو استخدم منهج فقه الأولويات في مسائل ومناهج طرح العقيدة الإسلامية[[3]]، ولأن الحفاظ على العقيدة الإسلامية في بنيتها ومعتنقيها أولى من مسلك الفلاسفة في الحجاج مع المخالف في مسائل الاعتقاد وهم بذلك حولوا العقيدة الإسلامية إلى قضايا ذهنية تجريدية لا أثر لها في السلوك، فانحرفوا بذلك عن العقيدة عن جانبها في الفهم المنطلق من الوحي، وجردوها من جانبها العملي السلوكي الذي يجب أن تعطى له الأولوية فهمًا وسلوكًا. فهم بذلك قلبوا سلم الأولويات في منهج عرض العقيدة وإفهامها للناس فعملوا على:
- أولًا: فلسفة العقيدة وناقشوها مناقشات فلسفية يصعب فهمها، فعقدوا العقيدة، وكان الأولى بهم أن ينهجوا طريقة القرآن الكريم الذي يعرض العقيدة الإسلامية بأسلوبها الأقرب والمنسجم مع الفطرة ومع ما يناسب الإنسان في حياته.
- ثانيًا: أكثروا من الخلافات التي تسبب في انقسام الأمة إلى فرق وأحزاب عديدة أدخلتها في صراعات وحروب، وكان الأولى أن يركزوا على مسائل العقيدة كما يعرضها الوحي مضمونًا ومنهجًا.
- ثالثًا: تقديس العقل ورفع شأنه على حساب الوحي وتقديمه[[4]].
وهذا كله بسبب الاضطراب في سلم الأولويات على مستوى العقيدة منهجًا ومضمونًا وهذا ما جعل علماء السلف ينتقدون هذا العلم وينكرون على أهله، والإشكالية اليوم أن بعض المثقفين ما زالوا يعملون ويشغلون عقولهم وعقول الناس بقضايا علم الكلام وطروحاتها في قوالبها الفلسفية بنية الاحتساب في أفهام الناس للعقيدة في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الرجوع إلى مصادر الوحي وفهم مسائل الاعتقاد منها مجردة عن فهم الفلاسفة والمنطقيين[[5]].
[[1]] يُنظر: بالتصرف، العلواني، طه جابر، مقدمة كتاب “نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور“، أحمد الريسوني، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1415هـ/ 1995م.
[[2]] يُنظر: الوكيل، محمد، فقه الأولويات دراسة في الضوابط، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 1997م، ص: 18.
[[3]] عبد الحميد، محسن، المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، مؤسسة الرسالة، بدون طبعة، ضمن سلسلة كتاب الأمة، ص: 41.
[[4]] يُنظر: الوكيل، محمد، فقه الأولويات، ص: 19.
[[5]] يُنظر: التفتنازي، مسعود، شرح المقاصد، تحقيق عبد الرحمن عميرة، الطبعة الثانية، 1998م، 1419ه، عالم الكتب بيروت، مجلد 1، ص: 34 وما بعدها. وقد عنون بابًا بـ “موقف السلف من علم الكلام”.