التنظير للهرمينوطيقيا في قراءة الوحي الإلهي وخطرها على العقيدة

د. محمد القطاونة- أستاذ العقيدة والفلسفة||
إن أي خطر على الإسلام اليوم لن يكون أكبر من دور المناهج الفكرية الغربية وتطبيقاتها على الوحي، لما تلبست فيه على مثقفي التبعية في مصطلحاتها وبهرجتها وأعلامها وإعلامها، فذهب أصحاب المناهج الغربية ومن لف لفهم وردد مقولاتهم في جامعاتنا ومنتدياتنا ومراكزنا البحثية بالتبجح بالألفاظ والأسماء والمصطلحات الأجنبية التي تضفي على مشروعهم القداسة والتفخيم والتعظيم، في حين يكلون التهم جزافاً وانتقاصاً، وتُلاك الاكاذيب تباعاً، وتنثال الافتراءات سحاباً في حق علماء السلف، والعلماء العاملين المخلصين.
والاففي أي قانون وفي أي منطق يفسّر القرآن بناءً على خواطر وهواجس تحدث بها “شلايخرماخر”، أو “هايدغر”، أو “رولان بارت” أو “دريدا” ؟ أمن المنطق والانصاف أن يُسلم الرومنطيقيين التبعيين لـ “آلتوسير” وغيره بانه لا يوجد قراءة بريئة، بينما يُضرب بقواعد الشافعي وأصوله عرض الحائط، ويقال بأنه يحتال على الامة، وأنه يكرس الشعوبية لأنه يضع ضوابط لفهم النص وأصولاً لتفسير الخطاب؟ أما أنه من الانصاف أن يسلّم التبعيون بأن فهم الخطاب لا يتم الا إذا نحينا مقاصد القائل جانباً، وافترضنا أنه قد مات، ويعرض عن كلام الله عز وجل وقوله بأنه حي لا يموت، وأن مراده ومقاصده من خطابه هي الغاية والمراد، بل هي السبب في ارسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب، وتكليف العباد؟ لذلك نقول بدءً بأنه يوجد في الساحة الاسلامية منهجين لتأول النص:
أحدهما: عند علماء الأصول والتفسير. ويقوم على ضوابط عقدية ولغوية وشرعية يحرصون فيها الى الاقتراب أكثر من فهم مراد الله من خلال النص، ويقوم هذا المنهج وضمن آليات وقواعد بترجيح المعنى المراد بناءً على المرجحات الموجودة في النص، أو القرائن الحافة به، أو السياق، أو الأصول العامة للشريعة وضوابط التفسير، وليس الاستدلال لديهم بالتشهي أو العبث أو الخيال أو الموهبة، وإنما بالدليل. فيستند التأويل عندهم إلى دليل صحيح يصرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره. و يكون هذا الدليل أقوى من الظاهر، و إلا فإن الأصل الأخذ بالظاهر و إلاَّ جنحنا إلى الأخذ بالرأي المجرد و الهوى الذي ذمه الله و رسوله r و السلف رضوان الله تعالى عليهم([1]).
والآخر: لدى الحداثيين المعاصرين، ففي حين يعني لدى الأوائل صرف الكلام عن ظاهره إلى معنًى يحتمله. فإنه لدى أصحاب المناهج الحديثة ينحو منحًىً خطيراً، يطال النص بالكلية وقابليته الى التأويل اللامتناهي، ويصرفه عن وجهته التشريعية أحياناً ويجعل العقل المعاصر حكماً عليه أحيانًا أخرى([2]).
ولكن كيف لهذا التأويل أن ينسجم مع القرآن الكريم، والقرآن الكريم أُنزل لكي يُفهم وتقوم عليه عقيدة وشريعة وسلوك، أمّا ما يتحصل بعد ذلك من فوائد رمزية أو إشارية فهي تابعة للمقاصد الأولى والاساسية والجوهرية، ويجب الا تتناقض معها او تصادمها .ان قداسة القرآن تعتبر مما عُلم بالضرورة، ولا يمكن لمسلم ان يتجاوزه او يغض الطرف عنه، ولا بد لكل مسلم حتى يكون مسلماً أن ينطوي في قلبه كل تبجيل شديد لكتاب الله عز وجل، وتمجيد وتعظيم لكلماته سبحانه وتعالى، ولا يوجد أي تناقض بين هذه القداسة، وبين الشرح والفهم عن الله عز وجل، فالباري عز وجل أنزل كلامه ليفهم أولاً، وأحال في ذلك إلى اهل العلم لكن أصحاب هذه المناهج لا يعجبهم هذا الخطاب فقداسة القرآن حاجز بينهم وبين العبث، وسد عظيم يحول بينهم وبين اللعب في كتاب الله، لذلك فهم يبحثون بين المناهج الحديثة وعن أكثرها جدوى في تحطيم هذه القداسة وتهميشها .
لذلك بداء مشروع تطبيقات المناهج الفكرية في قراءة جديدة حداثية للقرآن على يد حفنة من التبعيين أمثال “حسن حنفي” و”نصر حامد أبو زيد” و”محمد أركون” وتلامذتهم في الشرق والغرب، فالهرمنيوطقيا بنظر هؤلاء ليست ضرورة لفهم النصوص الأدبية فقط بل لفهم القرآن الكريم ايضا يقول د. “ابو زيد” وتعد الهرمينوطيقا الجدلية عند “غادامر” بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب ، بل هي اعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره حتى الآن “
فهذه هي الهرمينوطيقا “الغادمرية” التي يعدّها ابو زيد ضرورة لفهم النص القرآني فلا بد بنظره حتى تكون منتجة أن تطعم بالمنهج الجدلي المادي، وذلك حتى لا ينفصل التأويل عن الواقع، وتظل الماركسية هي المهيمن على عناصر هذا المنهج .
وهي نفس الفكرة التي ينادي بها الدكتور ” طيب تيزيني” فهو بعد أن أقصى المناهج السلفية الأصولية باعتبارها وهماً تتنكر للوضعية الاجتماعية أي الواقع، ووصفها بأنها تهرف بما لا تعرف، ذهب يستنجد “بميشيل فوكو”([3]) الذي دعا إلى رفض الحفريات الباحثة عن المعنى الحقيقي الكامن وراء المعنى السطحي([4]) . ولم يقف “التيزيني” عن ذلك بل ذهب الى تفضيل منهج “ميخائيل باختين” في دراسة النص القرآني، الذي يكرس بحثه ودراساته حول الماركسية وفلسفة اللغة، وحول علاقة اللغة بالمجتمع فينظر اليها من موقع” جدلية الدليل اللغوي كمفعول للبنيات الاجتماعية” ومطعمة بالمنهج الجدلي التاريخي المادي بعكس “فوكو” الذي يميل منهجة الى الميتافيزيقا وبالتالي لا نستفيد كثيرا من طبقاته الرسوبية .
ويسعى أمثال هؤلاء لتكريس المناهج الوضعية ليبقى التأويل في قراءة الوحي لا نهائياً ما دام خاضعا لجدلية الواقع المادي والتاريخي، ويأخذ التأويل بذلك شكل الصيرورة المستمرة التي لا تتوقف، والحاكم عليه هو الواقع الذي ينتج النص ويشكله، لذلك يبقى التأويل في سيرورة دائمة لا تتوقف وتظل تعيد انتاج النص عبر الدائرة “الهرمنيوطيقية” وبدون ضوابط، الا ضابط واحد هو التلازم مع الواقع، والاستجابة للقيم الحديثة، والانسجام مع العصرنة، ولا يهم بعد ذلك أن يكون التأويل منسجم مع النص أم لا، متناغما معه أو لا، المهم ان يكون القارئ ذا قدرة على تحويل النص وتحريفه وقلبه وتفكيكه ، للاستجابة لهذا الواقع أياً كان .
وكأنهم يرون المنهج الأصولي الاسلامي منهج أحادي المعنى، لكن مرادهم ليس تعدد المعنى واحتمالاته، وإنما فوضى المعنى أو نسبية المعنى. الى أن ذهبوا الى الادعاء ” بأنه لا يوجد نص لا يمكن تأويله من أجل ايجاد الواقع الخاص به”([5])
([1]) – أنظر :بحث الدكتور مفيد أبو عشية ،ضوابط التأويل عند الأصوليين ، مجلة » دراسات « ( مجلد 20/ ص. 192). و كتاب» التعارض والترجيح بين الأدلة «(ص.213-236) تأليف عبد اللطيف البرزنجي.
([2]) – في حين كان الفقهاء وعلماء الأصول والتفسير، يؤولون لدواع اجتهادية شرعية ولغوية، يحرصون بها على الاقتراب أكثر من مطلوب النص، فإن المحدثين يندفعون في الغالب بدوافع من خارج النص، أفرزتها معطيات الثقافة المعاصرة، وأثرت فيهم عوامل خارجية من قبيل الفجوة الحضارية التي تعاني منها البلاد العربية والهزائم العسكرية التي تُوِّجَت بوقوع كثير من البلاد العربية تحت الاستعمار المباشر، فالتبعية – ما أفضى إلى الاقتراب من مناهج الغرب، والخضوع لها أحيانًا، فتعجَّل مثقفون ومفكرون عرب الحكم على التراث بالسلبية، بل تجاوزوه إلى النصوص، وحتى القطعية منها؛ ينظر: مقال “الحداثة العربية وتأويل نص الإسلام الديني”، لعلي بارويس، موقع المسلم.
([3]) – ميشال فوكو (1926-1984) فيلسوف فرنسي، من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين، وتميز عنهم بمنهجه الحفري. وابتكر مصطلح “أركيولوجية المعرفة” الذي جعله عنوانا لكتابه L’Archeologie du Savior الذي نشر عام 1969 .
([4]) – أنظر: طيب تيزيني، النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، دار الينابيع، دمشق، ط2. ص: 45 .
([5]) – حسن حنفي، من العقيدة الى الثورة، مطبعة القاهرة ،1988م،جـ 1،ص: 397 .