Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
آراءمحلي

قلبي يتحدّى الفوتوغرافيا

سعدية مفرح
سعدية مفرح

سعدية مفرح:

ما معنى الصور الفوتوغرافية بالضبط؟ شاغلني هذا السؤال دائما، وربما مع كل التقاطة جديدة للعدسة، أو إطلالة عبر الفوتوغرافيا على وجه عزيز غائب.

أتأمل آخر صورة لوالدتي رحمها الله، التقطتها قبل رحيلها بأيام، ويعاودني السؤال الوجودي من وراء العدسة: أي معنى لتجميد لحظة آنية ستكون ماضياً بعد قليل؟

يخالط الحاضر الماضي في الصورة الفوتوغرافية فلا أعود أعرف أن كنت أعيش حاضرا أم استذكر ماضيا من خلالها.

قبل سنوات قليلة تعرض حاسوبي الصغير لعطل مفاجئ. أتذكر يومها أنني كنت أكتب مقالا عن رواية عزازيل، وما أن بدأت بآخر فقرة من المقال حتى تعطل الجهاز. اسودت الشاشة أمام عيني تماما ثم انتهى كل شيء، وبدا حاسوبي العزيز جثة هامدة.

انخلع قلبي للحظات وأنا أفكر، ليس بالمقالة التي كدت انتهي منها وأعرف من واقع خبرتي أنني لن استطيع أعادة كتابتها كما كتبتها لأول مرة وحسب، بل أيضا بكل ما في جوف الجهاز من مقالات ونصوص ومشروعات كتب وصور.

تذكرت، وأنا منهمكة في محاولاتي اليائسة لإعادة الحياة الى الجثة الممددة أمامي أنني إن خسرت فلن أخسر الكثير، فقد اعتدت على نسخ كل ما أكتب تقريبا في نهاية كل شهر في ذاكرة إلكترونية منفصلة تحسبا لأي طارئ.. وها قد حدث هذا الطارئ، فقلل تدبيري المعتاد من حجم خسائري.

لن أخسر سوى جهد شهر واحد، أو أقل أو اكثر بأيام فقط، من النصوص والصور. أراحني أن تذكرت ذلك كثيرا. وأجلت إكمال محاولاتي لإعادة الحياة الى مجاري الحاسوب حتى الصباح لتتسنى لي الاستعانة بخبرة من يملك الخبرة. وأمضيت بقية الصحو في ليلتي بالتفكير في موضوع مقالة جديدة بدلا من مقالتي عن رواية عزازيل، التي لن أغامر بمحاولة إعادة كتابتها. لن أستطيع على أي حال.

بعد يومين عاد لي حاسوبي، من شركة التصليح، بحياة جديدة وذاكرة فارغة خفيفا ورشيقا بلا صور ولا كتابات، مما أغراني على الكتابة فيه فورا. لولا أن مشيئة الله اختارت أن ترحل والدتي، رحمها الله، عن الحياة الدنيا في ذلك اليوم تحديدا.

يا إلهي.. أي تدبير إلهي هذا الذي حدث في غضون ايام لأفقد والدتي بعد أن فقدت ذلك الملف الألكتروني الصغير الذي احتوى كل صورها الأخيرة؟ لم تكن والدتي من عشاق التصوير، لكنها استسلمت لعدستي قبل رحيلها باسبوع واحد كما لم تفعل في كل حياتها السابقة.

صورتها بأوضاعها اليومية العادية المختلفة، كما صورت بقية أفراد العائلة معها. كانت حفلة تصوير ضخمة جربت فيها عدسة الكاميرا الجديدة، حتى أنني التقطت فيها ما ملأ ذاكرتها خلال يومين فقط. أفرغت حمولة الذاكرة في الحاسوب كعادتي استعداداً لالتقاطات إضافية، وتعطل الحاسوب عطله القاتل فاختفت الصور الى الأبد.

لم أشعر بحسرة على شيء مادي فقدته في حياتي كحسرتي على تلك الصور بعد رحيل والدتي رحمها الله. أتذكر أنها طلبت مني وأنا أريها صورها الجميلة بالجهاز، أن أطبعها لها كصور ورقية لتضعها في الألبوم الصغير، الذي تحتفظ فيه بصور من تحب ممن رحلوا، ولم أفعل أو ربما أجلت الأمر.. كعادتي.

بعد رحيلها بأيام شعرت بتأنيب ضمير مضاعف؛ أولاً لأنني لم أفعل، فلم أحقق لها تلك الرغبة الصغيرة، وثانياً للأنني لم أفعل فلم يتسن لي الاحتفاظ بآخر ذكرياتي معها!

لكنني الآن، وبعد مضي هذه السنوات القليلة على رحيلها المدوي في كياني كله، أنتصر لذاتي واحتفي بذاكرتي التي احتفظت بكل دقائق تلك الذكريات بلا معاونة فوتوغرافية. فيبدو أن فقداني للصور عزز ذاكرتي لتحتفظ بما لم تقدر الفوتوغرافيا على الاحتفاظ به.

كانت قد نجت من حادثة عطل الحاسوب صورة (أو صورتان) لوالدتي بقيت بالصدفة وحدها في ذاكرة الكاميرا بعد أن أفرغتها. وكلما تأملتها الآن أشعر ببؤس قدرات الكاميرا بجانب قدرات قلبي، الذي يحتفظ بالصوت والرائحة والملمس ونكهة الكلام وعبق الضحكة وانحناءة الحنين وتقطيبة الأسى ورنة الزعل في النداء وغنج الرضا، وهمهمة الدعاء وعطر الورد وملمس الحناء على باطن الكف.. والحب كله. هل تستطيع الفوتوغرافيا أن تتحدى قلبي الذي يحتفظ بكل ذلك؟ طبعا لا!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى